الطريق لإيقاف الربيع العربي

 

 

ليس غريبا أن يكون أول اكتشاف لأستاذ الأدب العربي في جامعة طوكيو (نوبوأكي نوتوهارا) من خلال ملاحظته اللصيقة للمجتمع العربي على مدى أربعين عاما قضاها مسافرا في العواصم العربية والأرياف والبوادي، ليس غريبا أن يكون أول اكتشاف له هو غياب العدالة الاجتماعية.

يقول في كتابه الرائع، والذي أنصح الجميع بقراءته " العرب، وجهة نظر يابانية ":

" أول ما اكتشفت من البداية في المجتمع العربي هو غياب العدالة الاجتماعية. وهذا يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس، مما يؤدي إلى الفوضى. ففي غياب العدالة الاجتماعية وسيادة القوانين على الجميع بالتساوي يستطيع الناس أن يفعلوا كل شيء. ولذلك يكرر المواطنون دائما: كل شيء ممكن هنا. وأضيف كل شيء ممكن لأن القانون يحمي الناس من الظلم.

تحت ظروف غياب العدالة الاجتماعية تتعرض حقوق الإنسان للخطر. ولذلك يصبح الفرد هشا ومؤقتا وساكنا بلا فعالية لأنه يعامل دائما بلا تقدير لقيمته كإنسان. وأستغرب لماذا يستعملون كلمة الديموقراطية كثيرا في المجتمع العربي؟"

الغريب أن تغيب هذه الحقيقة عن المعنيين بها مباشرة من حكام وشعوب، فيظلون يناقشون شتى المواضيع، غربيها وشرقيها، ويثرثرون فوق النيل وتحت النيل، وينسون النيل و(النيلة).

والغريب أن هذه الأمة تقرأ ليل نهار آيات العدل الكبرى في سورة الرحمن: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9).

تقرأ هذه الآيات ثم لا تعير للعدل والقسط أي اهتمام في حياتها على مستوى الفرد والمجتمع.

إن قوام المجتمع، أي مجتمع، هو سيادة العدالة فيه، ومن هنا كان هدف الرسالات السماوية جميعا أن تكون أمور الناس مبنية على القسط :﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) سورة الحديد.

والقسط أخص من العدل كما يذهب إلى ذلك أبو هلال العسكري في كتابه ( الفروق في اللغة )، يقول:

الفرق بين القسط والعدل: أن القسط هو العدل البين الظاهر ومنه سمي المكيال قسطاً والميزان قسطاً ؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهراً وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا إن القسط هو النصيب الذي بيّنت وجوهه ،وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط.

فالقسط المأمور به في الآيات الكريمة هو مرتبة عالية من العدل يكون واضحا ظاهرا يستشعره المجتمع بجميع فئاته وطوائفه وأطيافه. وهو ما عبر عنه العسكري أيضا بالنصيب الذي بينت وجوهه، أي الحصة المقدرة التي تعطى لكل أحد بناء على معايير موضوعية، وليست اعتباطية.

إن غياب القسط في العالم العربي يتمظهر في غياب التنمية المتوازنة بين كافة مناطق الوطن الواحد، حيث تحظى منطقة المركز بنصيب الأسد من ثروات البلاد، ويوزع الباقي على الأطراف بحصص متفاوتة وفق معايير فئوية. فتُحرم منطقة ذات كثافة سكانية عالية من إقامة جامعة بها مثلا، وتقام جامعة في منطقة أخرى أقل كثافة وأدنى حاجة.

في موضوع شائق له، بعنوان: بالشواهد: من هو المناطقي؟ كتب الدكتور علي الموسى في جريدة الوطن السعودية:

قرأت ما قبل الأمس، هنا، أسماء أكبر مئة شركة واعدة وصاعدة، ثم قرأت بالأمس عنوان صفحة الاقتصاد العريض الذي يشير إلى أن الاستثمار الأجنبي في البلد قد استطاع جمع 567 مليارا في ست سنوات. ولأنني أعيش على طرف ـ إصبع اليد ـ إذا كنتم تظنون أن الوطن خريطة جسد، فسأقولها بكل صراحة، أنني قرأت أسماء هذه الشركات وأرقام هذا الاستثمار الأجنبي المزعوم، مثلما يقرؤها مواطن من رأس الخيمة أو جزيرة مدغشقر.

من هو مسؤول التخطيط الذي سمح لهذه الشركات أن تزدحم بلوحاتها في بضعة شوارع محددة في البلد، ومن هو صاحب القرار الذي سمح لهذه الشركات أن تعيش على قروض المال العام ثم تزهر وتنمو على مساحة بضعة أكيال من هذا الوطن، ومن هو مسؤول التخطيط الذي تناسى أنه درس في الرابعة الابتدائية أن الوطن أكبر من مليوني كيل مربع؟ من هو مسؤول الاستثمار الأجنبي الذي يحتفي بهذه العناوين وهذه المليارات ثم يحشرها في بضع مدن أقل من أصابع يدي اليسار وهو الذي يعلم أن في البلد من المدن خمسة أضعاف أصابع الجسد مجتمعة؟

وغياب القسط يكون على المستوى السياسي في عدم إعطاء كل مكون اجتماعي حصته المناسبة من التمثيل في السلطة بمكوناتها الثلاثة: التنفيذية والقضائية والتشريعية.

فحين تكون فئة اجتماعية خارج بعض الوظائف العامة، أو يكون تمثيلها غير متناسب مع حجمها نكون أمام حالة من غياب العدالة الاجتماعية.

وغياب القسط على المستوى الاجتماعي يكون بممارسة التمييز بين مكونات المجتمع، فهذا مواطن من الدرجة الأولى، والآخر من الدرجة الثانية أو حتى العاشرة. الأول مصان العرض، والآخر عرضة للاتهام والسباب والقذف دون أدنى رادع.

وأخيرا ينبغي أن يُعلم جيدا أن الذي فجر الثورات العربية هو غياب العدالة الاجتماعية بكافة وجوهها. فالعدل وحده هو الضمانة لاستقرار المجتمع. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: العدل جُنة واقية، وجَنة باقية. ويقول مبينا أهمية العدل ومكانته في التشريع الإسلامي: عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة قيامِ ليلها وصيامِ نهارها، وجور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله من معاصي ستين سنة.

لذا نقول ببساطة: إن منع وصول عدوى الربيع العربي لأي دولة يمر بطريق واحد هو تحقيق العدالة الاجتماعية في تلك الدولة.

 

شاعر وأديب