(الحرية) شعار الثوار و منطلق الأحرار
في معاني الحرية:
تنوع معناها، و اختلف مفهومها، و لكن الجميع اتفق على أهميتها لكونها قيمة إنسانية سامية، فالكل وضع لها معنى و مفهوم حسب اعتقاده و فهمه و بيئته، و لكنها بقيت شعاراً للحركات "الثورية"، و منطلقاً للحركات التحررية من ظلم الأنظمة السياسية و الاجتماعية، و الأعراف العامة و التقليدية، و الموروثات الجامدة، التي تعطل حركة العقل البشري لتستبدله بقوالب فكرية جاهزة.
تعدد التعريف الذي يوصلنا لمعناها "إلى حد لا نكاد نقع فيه على تعريف جامع مانع لها"، مما أدى أحيانا إلى تقديم تعريفات متباينة وبعضها غريب عن بعضها الآخر، ولعل الاطلاع على ما ذكره احد العلماء الغربيين، وهو (إزايا برلين)[1]، من أن التعريفات التي طرحت للحرية قد بلغت حتى الآن المئتي تعريف يجعل المسالة أكثر استشكالا و يبعث بالتأكيد على التعجب والاستغراب[2].
و غالب الفلاسفة ربط الحرية بالفعل (الأخلاقي)، فقد فسر سقراط[3] معنى الحرية على أنها "فعل الأفضل" وفقاً لمعايير الخير، مما يعني أن لا يعاق الإنسان عن التوقف عن العمل بل يتمكن من إخراج كل طاقات الإبداع التي لديه، لذلك فإن " الفعل الحر هو كل فعل يحمل طابع شخصيتنا" كما وصفه الفيلسوف الفرنسي (برجسون)[4].
بينما يرى "صاحب المدينة الفاضلة" (أفلاطون)[5] أن الحرية تعني "وجود الخير"، و يعني بالخير هو فعل الفضيلة، أي أن الإنسان الحر هو من يركز في أفعاله على فعل الخير.
و يعّرف الفيلسوف الغربي (جون لوك)[6] الحرية بأنها "القدرة والطاقة اللتان يوظفهما الإنسان لأجل القيام بعمل، معين أو تركه"، و يقول آخر و هو (جون ستيوارت ميل)[7] "أن الحرية عبارة عن قدرة الإنسان على السعي، وراء مصلحته التي يراها، بحسب منظوره، شريطة أن لا تكون، مفضية إلى إضرار الآخرين"، وهو مادون في مبادئ الثورة الفرنسية[8] حيث و صفت الحرية فيها"هو أن يقوم الفرد بأي عمل لا يضر بالغير، على أن يعود للقانون أن ينظم الحدود التي تفصل حرية كل فرد عن حرية سواه، وأن كل ما لم يحظره القانون يمكن عمله"، بينما ذهب (عمانوئيل كنت)[9] للقول بأنها عبارة عن "استقلال الإنسان عن أي شيء إلا عن القانون الأخلاقي".
و أرى أن اختلاف التعريف بين الفلاسفة هو نتاج طبيعي لتعدد النظريات الأخلاقية عند الفلاسفة[10].
يقول آية الله السيد حسن الحسيني الشيرازي(قدس سره)[11]: "(الحرية) هي: (التخلص من أنواع الأسر، الذي يجعل الإنسان أخيذاً، لسلطة عليه إرادتها، ويدين لها بالطاعة) وهي كلمة، تقابل كلمة (العبودية)"[12].
و يبين الشيرازي أن "الخضوع لله (عبودية)، والرضوخ للعقل عبودية، والخنوع أمام السلطان الجائر عبودية، والاستسلام للنفس عبودية"، و لكنه هنا يضع ذات العبودية بين أمرين (حسنة، و قبيحة)، و يرى أن الرضوخ للعقل من العبودية الحسنة، و ذلك لأن"الحرية والتفكّر الحر، هو أحد المباني الأصولية الأساسية"[13] في الإسلام و التي تحفظ حرية و كرامة الإنسان.
و نجد هنا أن آية الله جوادي آملي[14] يريد أن يذهب إلى ما ذهب اليه الشهيد الشيرازي في أن الحرية تعني " التفلت والتحرر من عبودية و إطاعة غير اللّه تعالى"، حيث يقول الشهيد الشيرازي أن الإنسان " لا يستطيع التحرر من اثنين منها إلاّ ليرضخ لأخريين، فأما يكون الإنسان خاضعاً لله والعقل، وأما أن يستعبده السلطان الجائر والنفس، ولا يمكن أنْ يتحرر من عبودية السلطان الجائر والنفس، إلاّ إذا رضي بعبودية الله والعقل".
و يرى آية الله الشهيد مرتضى مطهري(قده)[15] أن الحرية "تعني التحرر و الخلاص من القيود و العقبات التي تحول دون نمو قابليات الإنسان و طاقاته".
فلدى الإنسان استعدادات و قابليات منحها الله له على صعيد الفكر، الفن، و الجسم، و المعنويات، و لا بد من تبلورها و ظهورها. و على الآخرين أن لا يقفوا بوجه تبلور هذه القابليات.
غير أن الإنسان بحاجة إلى سلسلة من القوى الغريزية و الاكتسابية الضرورية لرُقيه، و التي يُعد التنصل منها تنصلاً عن مقومات التربية و الأمن، اللذين هما ركنان آخران من أركان تكامل الكائن الحي. و يُعدّ العقل و الفكر و الرأي الحصيف و الأدب و الأخلاق جزءاً من هذه المقومات. و لا يُعدّ اللاتعقّل، و الجنون، و اللاأدب، و اللاتربية، و الهيبة و الانعتاق من قيد الذهنية السليمة، جزءاً من الحرية. فالمجانين ليسوا أحراراً، و الجنون نقص لا كمال. فليست الحرية التخلي عن كافة القيود الإنسانية و الأدبية و التربوية[16].
و نجد أن التعريف الذي ذهب إليه آية الله مطهري(قده) قريب جداً إلى ما ذهب إليه الفلاسفة، رغم أن النتيجة التي يريد أن يصل إليها هي ذاتها التي وصل إليها الشيرازي و آملي، حيث يقول مطهري معرفاً ما وصفه بالـ(الحرية الإسلامية) : هي التحرر من الأصنام، و نير العبودية، و من هم على شاكلة أبي سفيان و أبي جهل، و التحرر من أغلال عبودية الثروة، و الهوى، و النفس الأمارة. و أصبح هذا التحرر ذا قيمة سامية بواسطة هذه الكلمة*[17].
و حتى يستطيع الإنسان الخلوص لعبادة الله تعالى، لابد و أن يتحرر من عبودية شهوة النفس، لأنّ الفرد، لا يباشر عملاً إيجابياً أو سلبياً، إلاّ تلبية للوازع الداخلي، فإذا سيطرت عليه شهواته، عاش أسيراً يخضع لنفوذها، ويمتثل أمرها، فكيف يستطيع مثله ـ وقد صرعته نفسه التي بين جنبيه ـ أنْ يتغلب على حاكم مستبد، أو عدوٍ مستعمر؟
فاللذين ينجرون وراء الملذات، عبيد لما وقعوا في أسره، من مال ومتاع، كما في بعض القول المأثور: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة) وكما قال بعض الأحاديث المأثورة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا (الجهاد الاصغر) وبقي عليهم (الجهاد الأكبر)، فقيل : يا رسول الله ما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس[18].
و أرى أن ما ذهب إليه المفكرون الإسلاميون كالشهيد الشيرازي هو أكثر وضوح و دقة في فهم الحرية بشكل صافي و غير فضفاض، فمفهوم الحرية لدى الفلاسفة يتصادم مع (عوامل طبيعية) كالـ(القضاء و القدر) أو ما يسمى عند الفلاسفة بالـ(الحتمية)، كما أنه يتصادم مع طبيعة التعامل مع اختلاف المفاهيم الأخلاقية لدى الناس، و اختلاف القوانين حسب اختلاف المذاهب السياسية التي تحكم كل دولة.
من هنا نجد أن الإسلام يعطي خطوط عريض في فهم الحرية و معناها، و الخطوط التي وضعها لحمايتها و حماية الكرامة الإنسانية.