حتى يغيّروا ما بأنفسهم!!
كما في الأفراد كذلك في المجتمعات فإن الحالة النفسية السلبية تأتي على الأعضاء لتثقلها بالأمراض والمتاعب، فترى آثارها على الوجه وفلتات اللسان. وكما أن هيمنة الحالة السلبية على نفس البشر تفقده توازنه في بعض درجاتها؛ كذلك على مستوى المجتمعات.
من أعتى الكوارث المجتمعية التي تأخذ من نفسية المجتمع تلك العادات السيئة والانحرافات السلوكية والأزمات الصعبة كالديون وتراكمها وما أشبه. خصوصاً إذا كان المجتمع مترفاً غارقاً في النعم وفجأة ينتكس وضعه المالي والمعيشي، فإنه يصاب في جهازه التنفسي مما يحول دون انتعاشه وحيويته وانطلاقه.
إن تفاقم الحالة النفسية أشبه باللكمات المتواصلة على جسد الإنسان التي تفقده توازنه وربما الانهيار أحياناً، وانتقال هذه الحالة من الفرد إلى المجتمع تعتبر كارثة، وأفضل مثال على ذلك الكارثة المالية التي عصفت بالمجتمع الأمريكي فأصبح يعاني كأول مجتمع مريض بالجملة في العالم بسبب هذه الكارثة.
ولعل الاجتماع الدولي الذي عقد في الولايات المتحدة لبحث تداعيات الكارثة الكونية سلط الضوء لأول مرة إلى وجوب دخول الأخلاق في مبادئ الرأسمالية لتصبح قابلة للعيش وتوفر إمكانية خروجها من غرفة الإنعاش ليكون هذا الخيار هو خيارها الوحيد قبل الوفاة وإهالة التراب على الرأسمالية المادية، بعد أن سبقتها للفناء الشيوعية المركزية.
هذا الواقع الحالي يدفعنا أكثر من أي وقت إلى إعادة النظر في استيراد المبادئ الدخيلة أو اللقيطة إلى مجتمعاتنا التي أكرمها الإسلام بأفضل نظام اقتصادي يضمن الحياة الكريمة للفقير والحقوق للغني.. خاصة ونحن نشاهد اليوم واقعنا الاجتماعي مهدداً في بنيته التحتية، فترى الكل مشغولاً بالبحث عن لقمة عيشه، بل وعن مستقبله المالي، وبطريقة جنونية لدى البعض، الأمر الذي يفقده توازنه النفسي، والأخلاقي، وحتى الديني في بعض المراتب.هذا الانشغال له أثره على الجانب التربوي والتعليمي، فهل تتصور مشغولاً بطلب معيشته ليلاً ونهاراً سيكون ملتفتاً إلى وضعه الاجتماعي، أو إلى أخلاق أبنائه وتربيتهم بشكل سليم؟
من جانب آخر تمتد المشكلة لتشمل الحكومة التي لا تولي اهتماماً حقيقياً بالجانب التربوي والتعليمي، ذلك إن أغلب العقليات الحكومية الموجودة قديمة أكل عليها الدهر وشرب، والمناهج لا زالت غير قادرة على تخريج شباب مؤهل تربويا وعلمياً.
وهناك حالة سيئة تتبناها بعض الجهات والناس - ويساعدها الوضع الاقتصادي المتردي للناس - إذ تتبنى هذه الجهات ترسيخ حالة الشعور بالعجز واليأس، فتوهمنا بأننا مجتمع غير قادر على صنع مستقبله أو المشاركة في تعيين مسئوليه، وقد تجلى ذلك في قضية عزل القضاة وتحكّم السلطة فيها، وكذلك في منع النشاطات الاجتماعية، وإجبار بعض علماء الدين على التوقيع بعدم ممارسة بعض مهامهم الطبيعية، الكثير منا لا ينقصه الإحساس بالفقر والعجز عن تلبية الحاجات الأولية، فضلاً عن قدرته في مواكبة الآخرين الذين يتنعمون بخيرات الشعب على حسابه. ولا شك إن الفقر يلعب دوراً سلبياً كبيراً على الجانب الأخلاقي والصحي، فالتغذية حينما تكون ناقصة تنعكس على البنية الصحية والنفسية للإنسان، وكذلك تنعكس على الجانب العلمي للإنسان. وأمام أبسط متطلبات الدراسة كيف يستطيع فقير أن يواصل مشوار الدراسة والتعليم وهو بأمس الحاجة إلى المال؟ وأنّى له الزواج الذي يتطلب مبالغ كبيرة في عصرنا الحاضر؟ أليس كل ذلك يؤثر على وضعه النفسي والأخلاقي والتعليمي؟ وبالتالي صناعة مجتمع يشعر بالدونية والنقص والانهزامية والإحساس بالعجز وعدم القدرة على الفعل وصنع القرار والمشاركة في بناء مستقبله، أو حتى نقد واقعه بصورة من الشفافية...
لو سألنا أي فرد عن المستقبل وما ينوي فعله، فإننا سنلحظ كيف أن نظرته وتقديره للأمور غالباً ما تكون مصطبغة بالتشاؤم واليأس من التغيير، ومما يبعث على الأسى أن كثيراً من الناس يجدون الأرض من تحتهم مليئة بالموارد والخيرات إلا أنها خالصة لغيرهم، وهم منها خلو، بل قد لا يجد المواطن قطعة أرض يقيم عليها هو وعائلته، أو أنه لا يجد وظيفة يكد بها على عياله.
لا يخفى على ذي نظر أننا نعيش حالة تشديد رقابية مقيتة تحد من الأنشطة والإبداعات أو من ممارسة التوعية في المجتمع بحرية؛ إلى حد يتساءل البعض منا هل نحن نعاني من عجز متجذر فينا ورثناه عن آبائنا؟. هناك من يشعر بهذه المعاناة، غير أنه مصاب بالعجز والقنوط واليأس والإحباط، ويرى التغيير ضرباً من الخيال والأوهام.
أين ذهبت روح التحدي والمواجهة والمسؤولية؟ تلك الروح التي تبنت مواجهة الوهن والقضاء عليه؟ ألسنا نقول نحن هنا نعيش في أرض أجدادنا وآباءنا وأحباءنا؟ وأن الأرض أرضنا، وينبغي علينا أن نأكل من خيراتها وأن نحافظ عليها بدمائنا وأرواحنا؟.هل نحن مجتمع مهزوم من الداخل؟.*
لنبتعد عن الحيل الدفاعية، المعروفة في علم النفس والتي يستخدمها الإنسان العاجز الذي يعاني من الخوف المستمر... ولنصدع بالقول بأننا مظلومين ومحرومين من خيراتنا ولنقل إننا مهمّشين، ثم نتحمل مسؤولية البحث عن مخرج لهذا الواقع المفروض علينا وتغييره.
صحيح أن التنشئة والتربية لها وقع كبير في تشكيل الهوية الخاصة لكل فرد من أبناء المجتمع، غير أن السلطة لعبت دوراً أساسياً في تكريس اليأس وبث روح الانهزامية في النفوس مقدمة لتسنين مجتمعنا.
لقد أبدع "فرانز فانون" في عرضه وتحليله من خلال كتاباته المتعددة عن ظاهرة الاستعمار فالسيد المستعمر يقوم يومياً "بإدخال العنف إلى عقول وبيوت المستعمَرين وهو يدخل في وعيهم أنهم ليسوا بشراً وإنما أشياء"[1] .
وفي رسالة استقالته الشهيرة التي وجهها إلى الحاكم الفرنسي في الجزائر من منصبه كطبيب في مستشفى الأمراض العقلية، إبان حرب التحرير يقول: "إن الإنسان العربي في الجزائر، يحس بالغربة والوحشة في بلده..إنه يعيش في حالة تجريد من آدميته..إن البناء الاجتماعي الذي فرضته فرنسا على الجزائر يعادي كل محاولة لانتشال الفرد الجزائري من حالة عدم الآدمية، وإعادته إلى حالة الآدمية التي هو بها جدير"[2]
الاستعمار مشروع تهديم مستمر ويومي لشخصية الفرد الجزائري. لقد تكشفت "لفانون" من خلال عمله العلاجي، عقد النقص التي غرسها وعمّقها الرجل الأبيض في الفرد الجزائري، تكشفت له الأساليب الأوروبية في امتصاص دماء الكرامة من شرايين الفرد الجزائري وإحلال الخوف والمذلة والمهانة مكانها"[3]
إنها لغة السوط بدل لغة الحوار لدى القوى المهيمنة على الناس، تلك اللغة التي تكرس التبعية واليأس من التغيير، حتى يتحول المجتمع لمسخ، وبالتالي انهيار القيمة الإنسانية.
ولا شك أن المسلم «الشيعي» ذاق عمليات التيئيس، وتعرض لصنوف عمليات التهميش وللإقصاء والنبذ من السلطات السياسية التي تعاقبت عليهم خلال أكثر من ألف سنة أو تزيد، لكي يوصلوا الشيعة إلى حالة من الشعور بالذل والدونية والشعور بالإثم والصغار، أو إيصالهم إلى حالة جلد الذات واتهامها بالنكوص والتقصير، كي يعشعش الجبن واليأس من التغيير،حتى إنهم اضطروا في بعض حقب التاريخ إلى إخفاء حقيقة أسمائهم وطقوسهم الدينية، وممارسة التقية بشكل مستمر.
وبمقدار ما ينهار اعتبار المرء لذاته، يتضخم تقديره للمتسلّط، ويرى فيه نوعاً من الإنسان الفائق المتميز، الذي له حق السيادة والتمتع بكل الامتيازات، علاقة رضوخ "مازوشي" "الإنسان الفائق". Surhomme
وأما مجتمعات العبودية، يروي مالك بن نبي عن جيلين من الصينيين اجتمع بهم في باريس، فأما الأول فكان يلتفت حوله حينما ينطق، يرتعش من الخوف، وكان الثاني يتحدث بقوة ويعبر بصراحة. فالفرد عينة من المجتمع مثل عينة الدم من الجسم، قد تكون سليمة وقد تظهر الإصابة بسرطان دم.
ينبغي أن نركز الجهود على إقناع المجتمع بضرورة وجوده الفاعل، وبهويته الخاصة القادرة على الإبداع والتغيير. وأفضل منهج في ذلك هو القرآن الكريم وأهل البيت ، وهو مصداق لـ ".. كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً" واليأس والشعور بالهزيمة كلاهما نتيجة الضلال عن القرآن وأهل البيت .
إن التغيير يبدأ في داخل النفس ويستمر بالصعود بها إلى مدارج الكمال واليقظة على هدى الثقلين.