ثقافة الألعاب الإلكترونية
خلصنا في المقالة السابقة إلى أنه يصعب تجاهل ما يتركه الإعلام والدعاية والإعلان من أثر في سلوك المستهلك وعاداته وتوجهاته واختياراته، بل ونمط حياته بشكل عام. فالبعض لا يتحكَّم بسلوكه الاستهلاكي، وينساق بشكل تام وراء ما تبثه وسائل الإعلام المختلفة من دعايات وإعلانات ترويجية، فتراه يشتري بين فترة وأخرى أحدث المنتجات والسلع الكمالية الاستهلاكية بشكل عشوائي، أو بقصد التباهي وحب الظهور.
والخلاصة هي أن ثقافة الفرد وسلوكياته وطباعه لم تعد تتشكل عبر الوسائل التقليدية فقط، من خلال التربية، والتعليم، والتثقيف الديني، وقراءة الكتب، بل إنها تتأثّر وتتشكل أيضاً عبر الوسائل الإعلامية المختلفة، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، والدعاية الموجّهة، بل وألعاب الفيديو، وألعاب الكومبيوتر، ومتابعة وسائل التواصل الاجتماعي، والاستخدام المتزايد للتكنولوجيا.
ولعل ما يجدر الإشارة إليه في هذا السياق الحادث الإرهابي البشع على مسجدين مزدحمين بالمصلين في نيوزيلندا قبل أيام، وما يقال عن تشابه مشاهد تنفيذ المجزرة باستراتيجية لعبة فيديو تسمى «بجي». حيث ارتدى منفذ الهجوم كاميرا على رأسه، أو وضعها فوق رشاشه، وقام بتصوير مجزرته وبثها مباشرة على الفيسبوك، ومن ثم أعيد نشرها على اليوتيوب.
واللافت في الفيديو الذي شاهده الملايين تعمُّد القاتل السفاح تصوير مقدمة سلاحه لتبدو الصورة كما في اللعبة تماماً، وكأنه في قاعة ألعاب فيديو من التي يرتادها المراهقون، حيث يتساقط الناس صرعى من كل صوب، من خلال الكبس وتحريك أزرار مقبض اللعبة. فمنذ لحظة دخول المجرم المسجد، شرع في إطلاق الرصاص بشكل عشوائي من بندقيته على المصلين، وواصل إطلاق النار حتى على المصابين الذين تكوموا على أرضية المسجد.
والسؤال هل هذا العمل الإرهابي البشع والشنيع الذي اقترفه المجرم بكل دم بارد وهو يسجل جريمته بالصوت والصورة، يشير إلى أن وسائل الإعلام، ومواقع التواصل، وألعاب الفيديو، وألعاب الكومبيوتر، لها تأثير مباشر، ثقافي ونفسي، على شخصية الفرد وتربيته ومعتقداته وأخلاقه وقيمه وميوله، وأن الإنسان يتأثر بما يشاهده على الشاشات بمختلف مسمياتها وأنواعها؟
وحول الأثر الذي تتركه مثل هذه الألعاب الإلكترونية شرحت الاختصاصية في علم النفس العيادي ميريام أبو عون «بأن لهذا النوع من الألعاب خطورة كبيرة لأنها تجعل الإنسان يهرب من واقعه ليعيش في عالم آخر بعيداً من الحقيقة. فلا يدرك دائماً الفرق بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي الذي تعرُضه اللعبة».
وأكدت أبو عون أن لهذه اللعبة، أي «بجي»، خطورة كبيرة على الفرد لأنها توهمه بأن أساليب العنف هي الطريقة الوحيدة للدفاع عن النفس، مضيفةً «وكأن العنف هو الوسيلة للوصول إلى الهدف المنشود وإلغاء الآخر أمر طبيعي». وأوضحت أن PUBG وما يشابهها «تجعل الفرد يلجأ إلى العنف لحل نزاعاته، وكأن الأذية أصبحت أمراً عادياً، وتصبح بذلك ردات فعله عصبية، كما يصبح منعزلاً اجتماعياً ويتفاعل مع آلة ويعيش في عالم خيالي». «1»
وحسب رأي الكاتبة مارلين سلوم "فإن ما يرتكب من جرائم تقشعر لها الأبدان، ومجازر، وجرائم قتل، وتنكيل بجثث، واعتداءات، وسرقات أيضاً، تُرتكب بأوامر من العقل المشحون بمشاهد وخطط لعمليات تم تنفيذها إلكترونياً، أو سينمائياً، أو تلفزيونياً. فالتطور الذي يقودنا إلى الانفتاح على العالم، يقودنا أيضاً إلى تفتح العقول على الإشارات السلبية، بما فيها العنف والعنصرية، والتي صار من السهل إرسالها من مصنّعيها إلى كل البشرية في ثوانٍ.
وتضيف سلوم، يخيفنا انتشار ظاهرة العنف، وسيطرة فكرة قتل الآخر في سبيل البقاء، والتي تنشرها الأفلام ومن ثم تتحول إلى ألعاب إلكترونية أو بالعكس. والكارثة، أنها تقسم العالم إلى أخيار وأشرار، وتغذي فكرة «كل من يختلف عنك هو مشروع عدو لك»، ولا بد من القضاء عليه قبل أن يقتلك، لذا يتم تبرير الجرائم فيها، بحجة الدفاع عن النفس، واستباق الآخر للبقاء على قيد الحياة، أو «لإنقاذ العالم» ". «2»
خلاصة القول هي أن حالة العولمة السائدة اليوم وتحدياتها الثقافية كشفت لنا مستوى ثقافة الأفراد وحجم معارفهم وطبيعة اهتماماتهم، خصوصاً مع هذا الانفتاح الإعلامي والتواصل الافتراضي غير المسبوق في التاريخ الإنساني. لذا يمكن أن تجد من يستهويه اقتناء أحدث أجهزه التواصل التكنلوجية فيما ثقافته سطحية وفقيرة المضمون، ولا يتمكن من الدخول في نقاش حول أي قضية تمس الواقع، بل يتمسك بالقشور والظواهر، وجل همه البحث عن الشهرة وإعجاب الناس، وينشغل بتصوير التفاهات والسخافات بكاميرا جواله، وإذا ما تحدَّث كان حديثه فقط عن أحدث صيحات الأزياء والموضة والألعاب الإلكترونية والأغاني والموسيقا.
وفي المقابل هناك آخرون على النقيض من هذا النموذج، ومن النوع الذي لا تؤثر الدعايات التجارية، أو آخر صيحات الموضة، في قراراتهم الشرائية، ولا تغويهم الدعايات الجذابة، ولا المظاهر السطحية، أو الحياة الاستهلاكية، بل يهتمون بجوهر الأشياء قبل مظهرها، ويضعون الخطط الاقتصادية التي تتناسب مع دخل أسرهم المادية، وتعويد أفراد أسرهم على الادخار وترشيد النفقات، وعدم الانبهار بالإعلانات والمظاهر الفوقية البراقة.
بالإضافة إلى ذلك فإن هؤلاء أيضاً يستغلون أوقات فراغهم في كل ما هو مفيد ونافع. فإذا ما تصفحوا الإنترنت بحثوا عن المفيد من أحدث الإصدارات العلمية، ويقرؤون الكتب الالكترونية، ويهتمون بالبحث عن المعلومات والمعارف التي تؤهلهم للتحدث في موضوعات النقاش التي يمكن أن تثار في البيت، أو مع الأصدقاء، أو في مجال التخصص، أو في مكان العمل ومع الزملاء، أو حين يرتادون مختلف المنتديات الثقافية. فهؤلاء يعتبرون أن الثقافة الحقيقية تكمن في الكتب والقراءة الجادة والمفيدة، وليس في الشراء غير الهادف، والإدمان على تغيير المقتنيات الشخصية بشكل مبالغ فيه.