الثقافة ليست أمراً هامشياً
الثقافة الاستهلاكية وما يرافقها من تبذير وإسراف، ومبالغة في شراء المنتجات والسلع والخدمات، ربما أصبحت عادة في مجتمعاتنا، نتيجة قوة التسويق التي تتغلب على أسلوب الشراء. فالنمط الاستهلاكي العشوائي والشره أصبحا نوعاً من التقليد الأعمى، ومصدراً للتباهي والتفاخر بين الآخرين، فهناك من يشتري أكثر بكثير مما يحتاج إليه ويستهلكه، وهو الأمر الذي يلتهم معظم الدخل الشهري.
وعندما تتجه اهتمامات الناس نحو كل ما هو مادي، وتتباهى وتتفاخر بمشترياتها، وتحرص على تغذية بطونها، وتهمل تغذية عقولها، من خلال الاهتمام بالعلم والفكر والثقافة والمعرفة، فإنها بالتأكيد سوف تصبح طعمة سائقة لكل المستغلين الذين سيتغنون من حسابهم. فالنمط الاستهلاكي، وأسلوب الشراء العشوائي، يشجع على رفع الأسعار، واستغلال حاجات الناس.
وحين تصبح الثقافة السائدة في أي مجتمع هي الاهتمام بالأمور الاستهلاكية على حساب الفكر والثقافة، فإن الأمر يدل على عُلُو القيم المادية على حساب القيم والمفاهيم الثقافية. والمفارقة في هذا السياق هي حين تجد من ينظر إلى الثقافة كما لو أنها من الكماليات، والأمور الاستهلاكية، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأنها أمر ثانوي قابل للتقشف، وربما للتهميش والتأجيل والحذف من الاهتمامات.
غير أن من يدعو إلى تهميش الثقافة يجهل قيمتها. فالثقافة ليست أمراً هامشياً أو استهلاكياً، بل هي بالإضافة إلا كونها أدباً وفناً، هي أيضاً نمط حياة وتفكير وممارسة. فتهميش الثقافة واعتبارها مجرد أمر ثانوي هو استخفاف بكل منجزات الحضارة، وبالدور الذي تلعبه الثقافة في الارتقاء بالإنسان وتطور المجتمعات. فالأمم التي أعلت من مكانة العلم والثقافة، واعتبرت المعرفة هي ركيزتها الأساسية، استطاعت أن ترتقي وتحقق التقدم والنمو والتنمية.
بعبارة أخرى إن مصير الأمم في هذا العصر يتوقف، بصورة أساسية، على مجهودها الفكري في سائر الميادين، كما يشير خالد القشطني، "فاليابان لا تملك أي مصدر للثروة غير السمك في البحر، لكنها تعتبر الآن من أغنى دول العالم وأكثرها تقدماً ورفاهاً بعد أن كانت من أكثر دول العالم فقراً وتخلفاً في القرن التاسع عشر. وكله يعود لنشاطها الفكري في سائر الميادين، امتداداً من العلوم والتكنولوجيا إلى السينما والموسيقى.
وحين المقارنة بين ما تنفقه بعض الأمم على البحث العلمي والترجمة والتأليف وانتاج الكتب الجديدة مقارنة بما هو عليه حال أمتنا فإن المقارنة تكشف تفوق هذه الأمم وتقدمها الكبير في هذه المجالات، في الوقت الذي تعيش فيه أمتنا حالة الضعف والخواء والتردي، وهو الأمر الذي يعود سببه حسب رأي القشطني إلى قلة المردود، أو انعدامه من امتهان البحث والتأليف والكتابة، فقلما تعثر على مواطن عربي يكرس حياته لهذه المهن الخاسرة. إذ سيموت جوعا. ولا يوجد حافز للعمل الخلاق والإبداع. وهذا من أسرار انحطاطنا.
ومن الاسباب الرئيسية أيضاً لهذا الفقر في الكتابة والنشر هو نسبة الأمية العالية، وقلة اهتمام المتعلمين بالقراءة واحترام الكتاب. ويختم قشطني قوله بالتساؤل إن كنا سنتعلم ونعلم أولادنا حب المطالعة، واقتناء الكتاب، وجمع الكتب، ونطور في أنفسهم غريزة الفضولية، غريزة السعي للمعرفة والاكتشاف، والاستمتاع بالمطالعة كمتعة من متع الحياة؟ وهل ستتعلم الأم العربية أن تقرأ لأطفالها شيئاً من قصص الأطفال قبل نومهم؟ ". «1»
ربما لا يحب أجيال اليوم، من الأطفال والشباب، القراءة والمطالعة، وليس لهم صحبة مع الكتاب، ولا يميلون إليه، بل تراهم يفضلون التعامل مع أحدث وسائل الاتصال الحديثة، والتي تجذبهم إلى درجة يصعب الفكاك منها. غير أن من أهم الجوانب التي يجب أن توضع في الاعتبار عند التخطيط لتربية طفل قارئ هي خلق البيئة المناسبة التي تزرع حب القراءة في نفسه.
فالاهتمام بموضوع القراءة منذ سني التنشئة الأولى لحياة الطفل ستحدد علاقته بالكتاب مدى الحياة. وبالتالي فإن ما يبذله الآباء والأمهات من جهد منذ سنوات العمر الأولى مع أطفالهم، وهم يقرؤون لهم، أو يسردون الأقاصيص والحكايات عليهم، أو يدربونهم على القراءة ويحببونها إليهم، هو ما سيضمن علاقتهم المستقبلية بعادة القراءة، وحب المطالعة، والسعي للمعرفة والاكتشاف، وتزيد توقهم إلى اكتساب المزيد من المعارف.