هل تشكل العلاقات الافتراضية خطراً على الأبناء؟
لا شك بأن التقدم العلمي والتقني الذي شهدته البشرية خلال العقود الماضي ترك آثاراً عميقة في نمط الحياة اليوميّة. إذ سهّل حياة الناس، ووفر لهم راحة جسديّة وترفيهيّة، وساعدهم على اكتساب الوقت، وإنجاز مزيد من الأعمال. كما أن التطور العلمي الذي شهده العالم في مجال تقنية الاتصالات بعد ثورة الإنترنت، والاختراعات المذهلة في هذا المجال، زادت من فرص التواصل بين بني البشر. فأجهزة مثل الهواتف النقالة، وأجهزة الكومبيوتر، بالإضافة إلى وسائط الإعلام التواصلي، أصبحت في متناول الجميع، وجعلت الحياة أكثر سرعة وسهولة ورفاهية مما كانت عليه.
لقد كان الهدف من اختراع بعض هذه الأجهزة التقنية هو اختصار المسافات فيما بين الناس، وتقريبهم من بعضهم البعض، وزيادة فرص التواصل بينهم، وجعل حياتهم أكثر ألفة ومحبة. وككل ظاهرة، أو اختراع، لا يخلو الأمر من التحديات، ووجود السلبيات والإيجابيات، والتي تناولتها الدراسات بالبحث والتدقيق، واخضعت لنقاش المختصين والباحثين، خاصة تأثيراها على الأطفال، سواء كان ذلك من الناحية الصحية، أو الاجتماعية، أو النفسية.
ومن بين التأثيرات التي أشار إليها الباحثون في هذا المجال هو أن هذا التغول التكنولوجي، بكل صوره ووسائله، تسبب، ويتسبب، في تهاوى الدور التوعوي والرقابي للآباء على أبنائهم. فبعد أن كان الآباء هم المصدر الذي يتعلم منه الأبناء القِيم والمُثُل الإنسانية والأخلاقية، بالإضافة إلى كونهم القدوة التي يلجؤون إليها في حل المشكلات اليومية التي تواجههم، أصبح الإنترنت والعالم الافتراضي منافساً لدور الآباء، وربما يكون هو المصدر الرئيسي الذي يستقي منه الأبناء المُثُل والقِيم.
فالإسراف المبالغ فيه في استخدام وسائل التكنولوجيا أدى إلى عزلة الأبناء عن الأهل، والانطواء على الذات، وإهدار الأوقات من دون فائدة، لاسيما بعد توافر التقنيات في كل غرف البيت، حيث تجد الأبناء منهمكين في عالم افتراضي يبعدهم ويغنيهم عن الأهل، وهو ما يؤثر في أفكارهم ورؤاهم، ويقلل من فرص الحوار الأسري، ويعزلهم عن الاختلاط الاجتماعي مع الأقران والأقارب، وينعكس سلباً على سلامة الأبناء من كل النواحي.
ففي ظل الاختراعات التقنية المتتالية، وتأثيرها الكبير على الأبناء، أصبحت السيطرة على الأبناء وإرشادهم وتوجيههم لما ينفعهم ويفيدهم أكثر صعوبة. فبعد أن كانت اللقاءات الأسرية، اليومية أو الأسبوعية، بمثابة مواعيد للتحاور، والتعرف على ما يلج في صدور الأبناء من هموم، أو ما يواجههم من مشكلات، فضلاً عن اكتشاف مهاراتهم وصقلها، أصبح الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، هي وسيلة التواصل الأكثر قرباً وحميمية لهم، وأمست تأسر البابهم وقلوبهم، ناهيك عن تكوين وجدانهم وشخصياتهم.
وفي سياق متصل بالعلاقة التواصلية بين الآباء والأبناء، وتأثير التقنيات الحديثة على الدور التوعوي للآباء، يشير جمال بن حويرب المهيري إلى أن ”تويتر، وفيسبوك، وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي نشأت على حين غفلة من الأجيال القديمة من أولياء الأمور، إذ لم يكونوا على دراية بهذه المواقع، بسبب بعدهم عن التقنيات الحديثة، ولأنها جاءت فجأة، وكذلك لم يكونوا على معرفة بما تخبّئ لهم ولأطفالهم من الأخطار، فتلقفتها قلوب الأجيال الجديدة التي نشأت على التقنيات، ووجدت فيها ضالّتها، حيث أصبحت بعيدة كلّ البعد عن تقييد الآباء والأمهات، وابتعدت أكثر عن نصائحهم وإرشاداتهم، وصاروا يسبحون في فضاء واسع بحريّة مطلقة، فلا قواعد ولا أعراف ولا أخلاق ولا تعليمات، وليس هناك من يستطيع أن يقيّد حريّتهم فيها، فهم فيها سادة وملوك، فإذا عادوا إلى واقعهم وحياتهم ومدارسهم وواجباتهم ونصائح أهلهم، وتركوا العالم الافتراضي الممتع، عادت إليهم الكآبة والملل والرتابة، ولهذا تراهم لا يملّون من الجلوس أمام الأجهزة، ولا ينكصون عنها، ولو فعلت ما فعلت لهم، لأنّهم يجدون فيها لذّة ما بعدها لذة، وتسلية في كل وقت لا تساويها تسلية في الوجود“. «1»
لقد بات واضحاً أن عالم الانترنت، ووسائل الاتصالات الحديثة، والأجهزة الذكية، ووسائط التواصل الاجتماعي، أمست فضاء واسعاً لا حدود له في ظل هذا الانفتاح التواصلي، حيث يستغله الأبناء في اللعب والتسلية والدردشة، وقتل أوقات فراغهم، بل وإهدارها في ألعاب الإنترنت البسيطة والمعقدة، والتي يثير بعضها الغرائز، والحثُّ على العنف، كما تقلل فرص التواصل والحوار مع دائرة الأقربين، وجعلهم أكثر قرباً من الأبعدين، والتعرف على أصدقاء غير مرئيين، وغير معروفين، وإدمان الدردشات معهم، مما يجعلهم عرضة لتلقي معلومات غير موثوقة، أو غير بريئة.
علاوة على ذلك فإن تواصلهم مع هؤلاء الغرباء ربما يقودهم إلى سماع أو رؤية مقاطع أو مناظر لا أخلاقية، يمكن أن تكون لها تأثيراتها التدميرية على تفكيرهم، وبالتالي على سلوكهم. وهو الأمر الذي يثير المخاوف من أن تتسرب إلى عقول الأطفال الصغيرة تلك الأفكار المسمومة والهدامة، والعادات المنبوذة والشريرة، والأخلاق غير المحمودة، والتي تؤدّي إلى الانحراف عن جادة الطريق.