الإمام الباقر وعلاج نقص المناعة
المصابون بفيروس نقص المناعة HIV يصبحون عرضة للإصابة بالأمراض بشكل عام، وبخاصة لما يسمى بالأمراض الانتهازية التي تنتهز فرصة ضعف الجهاز المناعي لتغزو الجسم.
وتشير آخر إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن عدد المصابين بمرض نقص المناعة المكتسبة ( الأيدز ) قد تجاوز 30 مليون شخص حول العالم، وأن عدد الوفيات بسببه منذ 1981 م بلغ 25 مليون شخص.
أرقام مخيفة دون أدنى شك، ولكن ماذا عن مرض نقص المناعة النفسية الذي يجعل الإنسان هشا ضعيفا أمام المؤثرات النفسية الخارجية؟!
أعتقد يقينا أن عدد المصابين بهذا المرض أكثر بكثير من المصابين بالأيدز، وما معدلات الانتحار المتصاعدة ( حالة كل أربعين ثانية ) إلا مؤشر من بين مؤشرات عدة ،كازدياد حالات العنف مثلا، تكشف جميعها عن مستوى انتشار نقص المناعة النفسية. والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة وهو يتحدث في آيات كثيرة عن الهشاشة النفسية للإنسان عامة إلا ما استثني، وقليل ما هم:
﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ﴾ (49) سورة فصلت
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ﴾ (51) سورة فصلت. ﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) ﴾ سورة المعارج
ومن أبرز تجليات الهشاشة وضعف المناعة النفسية أن يفقد الإنسان إرادته، فيسلب نفسه حرية الاختيار، ويجعلها فريسة للمؤثرات الخارجية والانفعالات اللحظية، وتتحول أفعاله إلى ردود أفعال لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.
في وصيته الخالدة لتلميذه النجيب جابر بن يزيد الجعفي، يركز الإمام محمد بن علي الباقر على الوقاية من مرض نقص المناعة النفسية، فيطلب من تلميذه أن يُعمل المنحة الإلهية الكبرى ( حرية الاختيار ) حين التعرض للمؤثرات السلبية الخارجية، وأن تكون أفعاله محكومة بالمبادئ والقيم، غير خاضعة للمزاج وتقلباته.
قد يكون المؤثر الخارجي ظلم الآخرين وتعديهم على حقوقك، مما يسوغ لك العمل على رفع الظلم عن نفسك واسترداد حقوقك المشروعة بطرق مشروعة، أما أن تكون مظلوميتك وسيلة للتعدي على حقوق الآخرين فهذا أمر غير مقبول، فالظالم، حتى الظالم، له حقوق يجب أن تحترم، ألم يطلب الإمام علي من ابنيه الحسنين أن يطعما قاتله؟!
لا يصح تحت أي ذريعة من الذرائع تبرير الظلم وانتهاك حقوق الإنسان، أي إنسان، لأنها غير قابلة للتجزيء، فإذا كنا نرفض مثلا الأساليب والممارسات غير الإنسانية في سجون غوانتنامو، فيجب أن نرفض ذات الأساليب في أي بقعة أخرى على أي كان.
وقد يكون المؤثر الخارجي خيانة الآخرين أو تكذيبهم لأقوالك أو كيل المديح لك بخاصة إذا كنت تتبوأ موقعا يسيل لبركاته لعاب الآخرين، أو على العكس من ذلك أي أن تتعرض للذم والسباب ولعن اللاعنين، فلا ينبغي هنا أيضا أن تكون ضحية تلك المؤثرات، فترد الصاع صاعين، أو تنكفئ على ذاتك مفضلا السلامة والانسحاب غير التكتيكي، بل يجب أن تكون صاحب القرار المبدئي الحكيم.
يقول عليه السلام: أوصيك بخمس : إن ظلمت فلا تظلم ، وإن خانوك فلا تخن ، وإن كذبت فلا تغضب ، وإن مدحت فلا تفرح ، وإن ذممت فلا تجزع.
ثم يضع الإمام قاعدة هامة جدا في التعامل مع أقوال الناس مدحا أو ذما، إذ يجب أن لا تكترث لأقوال الآخرين فيك إلا بمقدار انطباقها وتوافقها مع الحق.
( وفكر فيما قيل فيك ، فإن عرفت في نفسك ما قيل فيك ، فسقوطك من عين الله عز وجل عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك ، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.
واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنك رجل صالح لم يسرك ذلك ، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله ، فإن كنت سالكاً سبيله ، زاهداً في تزهيده ، راغباً في ترغيبه ، خائفاً من تخويفه ، فاثبت وابشر ، فإنه لا يضرك ما قيل فيك. وإن كنت مبائناً للقرآن فماذا الذي يغرك من نفسك )
وقد مارس الإمام ( ع ) بنفسه هذا السلوك، كما روى لنا التاريخ:
قال له نصراني يوماً : أنت بقر قال : لا، أنا باقر. قال : أنت ابن الطباخة ( يريد تعييره بها ). قال : تلك حرفتها . قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية.قال : إن كنتَ صدقتَ غفر اللـه لها ، وإن كنتَ كذبتَ غفر اللـه لك ، فانبهر النصراني بأخلاقه ، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديــه .
أما ختام الوصية الخالدة، فهو عبارة عن كلمات قصار تعيد تعريف المفاهيم بما بساهم في خلق قناعات فكرية جديدة أو ما يسمى بإيجاد تحول في منظومة البارادايم التي تكون محور الأفعال.
يقول عليه السلام:
ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى.
ولا نور كنور اليقين ، ولا يقين كاستصغارك للدنيا ، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك ، ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمّة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات .
ولا عدل كالإنصاف ، ولا تعدّي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كأداء الفرائض ، ولا خوف كالحزن ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا عدم عقل كقلّة اليقين ، ولا قلّة يقين كفقد الخوف ، ولا فقد خوف كقلّة الحزن على فقد الخوف ، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ، ورضاك بالحالة التي أنت عليها .
ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوّة كردّ الغضب ، ولا معصية كحب البقاء ، ولا ذلّ كذلّ الطمع ، وإيّاك والتفريط عند إمكان الفرصة ، فإنّه ميدان يجري لأهله بالخسران ... ) .
أما وسط الوصية فلا يتسع مقالي للحديث عنه، لذا أطلب منكم مراجعته وتدبره بأنفسكم.