عن أي حوار يتحدثون؟
تجتاح كل المجتمعات هزات سياسية أو اجتماعية تنفض غبار الركود الفكري أو السياسي، وتختلف المجتمعات في الوقت الذي تستغرقه في الإفاقة من الصدمة أو الهزة، لتعيد حساباتها وأولوياتها، والمجتمع السعودي لا يختلف عن باقي المجتمعات في هذا الأمر، الشيء الوحيد الذي تختلف فيه المجتمعات هو السرعة أو البطء في ردة الفعل على أي متغير أساسي في تكوينها الاجتماعي أو السياسي. المجتمع السعودي يميل إلى البطء في التغيير شأنه شأن أي مجتمع محافظ، وهذا يسري على كلا طرفي المجتمع، المحافظ والليبرالي، السني والشيعي، و ينتج عن هذه الهزات إعادة تقييم شاملة للأدبيات السياسية والاجتماعية بشكل طبيعي وسلس، قد لا يشعر بها الفرد، إلا إذا كان يرقب هذه التغيرات بحس الملاحظة الدقيقة، وهنا لست معنياً بتقييم هذه الهزات والتغيرات، بقد ما أنا بصدد تعريف المشهد العام بعد هذه التغيرات.
عادة ما تَسلمْ الأدبيات الأساسية لكل تيار من هذه الهزات، فيتم غالباً تدوير بعض الزوايا الفرعية لكل تيار فكري أو ديني لمسايرة الوضع الجديد. فيما يخص المشهد السعودي، نتج عن الكثير من الهزات خلال العقدين الماضيين تغيرات مفصلية، ولكنها ليست أساسية في الوضع السياسي والديني. فابتعدت الدولة بقراراتها عن التأثير القوي للمؤسسة الدينية الرسمية، وخصوصا في الخمس سنوات الأخيرة، أي منذ تسنم الملك عبدالله للحكم في عام 2005م، واقتربت الدولة أكثر من التيار الليبرالي، ومكنته من مفاصل الإعلام المرئي والمقروء، طبعا كل هذا محكوم بالنسبة والتناسب مقارنة بالوضع في عقد الثمانينات الميلادية. في بداية هذا التغيير كان التنافر على أشده بين التيار الإسلامي الخاسر لحظوة الدولة لعقود طويلة، وبين التيار الليبرالي الذي حل مكان التيار السلفي التقليدي وفاز بالمكانة لدى الدولة، وظل الشيعة بكل تياراتهم الفكرية والدينية يتفرجون بخجل على هذا التغيير.
وإن قلنا أن بوصلة الشيعة أخطأت في الوجهة هذه المرة، فلأننا نستند على عدة أسباب مهمة ومفصلية أدت إلى تهميش الشيعة أكثر، أو استثنائهم من المشهد السعودي العام. في الماضي كان الشيعة في السعودية يدركون مدى أهمية فتح حوار شفاف وصريح مع الجهات الرسمية في الدولة بمختلف قطاعاتها، فمظلومية المواطنين الشيعة في المملكة أوضح من أن تغطيها تصريحات أو بيانات إعلامية، وبدلا من التوجه المباشر للدولة وجهاتها الرسمية، اختارت بعض التيارات اللجوء للحوار مع التيار السلفي ببعض وجوهه، وكان العنوان العام لهذا الحوار هو التعايش السلمي، أو السلم الاجتماعي. وليس غريبا في أن يفهم البعض ممن يقرأ بعض المقالات والتنظيرات للحوار والسلم الاجتماعي أننا في المملكة نعيش ما تعيشه الجزائر من صراع بين مختلف فئات الشعب، أو حتى في السودان بين جنوبه وشماله المنهك.
فمنذ القدم ونحن نسمع من أجدادنا أن الشيعة والسنة في القطيف والأحساء كانوا متعايشين، ولم تبرز أي مشاكل طائفية في المنطقة، بل كان بعض مشائخ السنة في دارين يدرسون عند بعض مشائخ الشيعة، وكانت الشراكات التجارية والاجتماعية بين كلا الطائفتين سمة من سمات المجتمع. وحتى الآن، نجد الكثير من أبناء القطيف والأحساء منتشرين في شتى مناطق المملكة، ويعيشون بين إخوانهم السنة في الرياض وحائل وجدة وغيرها، ولم تبرز أي مشاكل تهدد السلم الاجتماعي في البلد. فما هي المشكلة هنا؟ المشكلة تكمن في التيار السلفي المتشدد نفسه، والتيار السلفي يزخر بحراك فكري عميق في هذه الفترة، أنتج الكثير من التنظيرات الجديدة الجديرة بالتأمل، وأصحاب هذه التنظيرات الجديدة يتمتعون بمرونة وقابلة للحوار أكثر من الحرس السلفي القديم.
إن مفهوم الحوار يفرض على كلا الطرفين في هذا الحوار الإنصات والاستماع للطرف الآخر، وافتراض حسن النية في محاوره، أما الحوار و الجدال الذي يتفنن أصحابه في الإلقاء، ثم يصمون آذانهم عن سماع الطرف الآخر، فلن يفضي إلى شيء. والحوار مع التيار السلفي بحرسه القديم هو حوار بيزنطي، لن يفضي إلى أي شيء على الإطلاق، فمازال الطرف السلفي في كل الحوارات المتلفزة أو الصحفية مع الطرف الشيعي يطرح نفس التساؤلات في كل جلسة، وتأتيه نفس الإجابات المطمئنة، ولكنه سرعان ما يعود لطرحها من جديد، وهكذا دواليك. وهناك عدة احتمالات كلها تفضي للنتيجة نفسها، فإما أن يكون الطرف السلفي لا يتمتع بذاكرة قوية ليتذكر أننا أجبنا على تساؤلاته ومخاوفه ببيانات وفتاوى صدرت من أكبر مرجعيات الشيعة بالعالم، أو أن يكون الطرف السلفي لا يحسن الظن بمحاوره الشيعي، ويعتقد بكذبه، أو أن الطرف الشيعي يمارس التقية، فكل هذه الاحتمالات تفضي إلى عدم جدوى هذا الحوار أصلاً.
بعد كل الحوارات السابقة نكتشف أننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في الحوار مع التيار السلفي بحرسه القديم، ولم تعد علينا هذه الجلسات إلا بالانقسام الاجتماعي في الداخل الشيعي والسلفي معا، ولأننا كجمهور ليست لدينا أي ثقة في جدوى هذه الحوارات، إلا إذا كانت لأهداف إعلامية فقط. فهل يمكن الحل في النفور من الحوار؟ والجواب هو لا بطبيعة الحال، ولكن للحوار شروطه التي تحكمه لضمان نجاحه. أول هذه الشروط هو أن يقبلنا المحاور كمسلمين ثم كمواطنين أصيلين في هذا البلد، ثاني هذه الشروط أن لا يأتينا المحاور بمواقف سابقة للحوار، وكأنه يأتي لتنفيذ أجندة التكفير، وإن اختلف الأسلوب، وثالث هذه الشروط أن يعتقد الطرف الذي يحاورنا بأننا أندادا له، وأن نتيجة هذا الحوار لن تضيف لنا كشيعة لوحدنا ولا لهم كسلفية لوحدهم أي قيمة، ولكن القيمة التي يجب أن ينشدها الطرفين هي الوحدة الإسلامية، وثم الوحدة الوطنية. بهذه الشروط قد يكون مصير هذا الحوار النجاح، أما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت والجهد على أضغاث أحلام، أو مجرد مغامرات إعلامية بحتة. لقد فشل التيار السلفي في الحوار على مدى سنين طويلة مع أي تيار آخر، إسلاميا كان أم ليبراليا، ولم يكن التيار السلفي يوما من الأيام قابلا لأن يتقبل – مجرد قبول وليس تبني – أن تكون هناك وجهة نظر أخرى في الساحة السعودية غير وجهة نظره، فالمقام الأول الذي ينطلق منه السلفيون هو أنهم الأصل، وغيرهم مجرد أصوات، أو أصحاب أفكار هدامة، و مداخلات المشاركين في كل الحوارات الوطنية التي انعقدت خلال الأعوام السابقة خير دليل على إنكار التيار السلفي لوجود الآخر.
هناك تيارات أخرى في المملكة هي أولى بفتح الحوار معها، أو التركيز عليه، فالتيار الليبرالي و التيار السني (الغير سلفي) هم أكثر قابلية للحوار وتدوير الزوايا الحادة من التيار السلفي، وهم أكثرية إذا ما قارناهم ببقية التيارات مجتمعة، ولكننا نجد التركيز الغريب على الحوار مع التيار السلفي، وكأنه ليس هناك أي شريك حقيقي لأي عملية حوار سياسي أو اجتماعي إلا هذا التيار، فوجهة النظر هذه لا تتمتع برؤية سياسية واقعية للمتغيرات السياسية في المملكة. لم يعد التيار السلفي يتمتع بتلك الحظوة القديمة لدى الدولة، ولم تعد الحكومة بتوجهاتها الإصلاحية تراعي خواطر التيار السلفي أبداً، وقرار إعفاء الشيخ سعد الشثري من منصبه في هيئة كبار العلماء أعلى سلطة دينية في المملكة، وإعفاء الشيخ اللحيدان من رئاسة الجهاز القضائي إلا مؤشرات لهذا التغير، فكيف نأتي نحن ونصر على الحوار معهم في وقت أن الدولة لم تعد تصبر على تصرفاتهم وتصريحاتهم!!
إن الأحرى على كل التيارات الشيعية أو الوطنية أن تتوجه للدولة مباشرة للحوار وإيصال مطالب المواطنين، بدلا من الإصرار على الحوار مع تيار بحجة أن له التأثير الأقوى على مؤسسات الدولة الرسمية، أو على الناس. صحيح أن التيار السلفي يتمتع بشعبية لا بأس بها، ولكنها في طور الضعف والهرم لاهتزاز ثقة الشارع السعودي بها لوقوفها كحجر عثرة بوجه مشاريع الدولة. الجدير بلفت النظر هنا أن الحوار المباشر مع الدولة سيفتح آفاق عديدة لكل التيارات في إيصال وجهة نظرها للدولة وتقوية علاقة الحكومة بالناس وآلامهم. إن التيار السلفي لم يعد مكتب الاستقبال المناسب لمشاكلنا كفئة أو كتيار، بل الدولة هي الجهة التي يجب علينا التوجه لها.