ديدنه العتاب!!

في مساء بارد، جلس الحاج عباس في صالة منزله، متكئًا على أريكته العتيقة، تتناثر حوله وحدته كما تتناثر الذكريات في ذهنه. كلما أغمض عينيه، عاد الماضي ليطلّ برأسه، كأنه شريط لا ينتهي، يعيد أمامه المشاهد ذاتها، بالألوان ذاتها، بالحسرة ذاتها. لم يكن زفاف جارهم الحدث الأول الذي قرر مقاطعته، بل كانت حياته كلها قائمة على حسابات دقيقة لا تسقط بالتقادم.

كانت زوجته تنظر إليه، هي تعرفه جيدًا، تعرف ذلك العناد الذي يسكنه، وذلك الميزان الذي لا يميل إلا حيث يرى هو العدل. تذكرت كيف رفض زيارة قريب لهم لمجرد أنه لم يبادله الأمر حين مرض. وكيف أجابها حين سألته يومًا:

— ”هل ستذهب لحفل زفاف ابن عمك؟“

فقال بجمود:

— ”كلا! كان عليه أن يأتي بنفسه ليدعوني، لا أن يرسل دعوة عبر الهاتف!“

تنهدت وقالت بحزن:

— ”هكذا أصبحت الحياة يا عباس... دعوة عبر الهاتف تكفي“

حاولت مرارًا أن تفتح نافذة في قلبه، قالت له ذات مساء:

— ”لو أن الناس جميعهم تعاملوا كما تفعل، لانقطعت الصلات بينهم. العلاقات يا عباس لا تُبنى على الحسابات، بل على التسامح والنسيان.“

لكنه هزّ رأسه بعناد وقال بثقة:

— ”التسامح جميل، لكن حين يصبح عادة، يتحول إلى استغلال.“

نظرت إليه بحزن ثم قالت برفق:

— ”ولكن يا عباس، ألم تسمع قول الإمام علي :“ لا تكثرن العتاب، فإنه يورث الضغينة، ويدعو إلى البغضاء" «1».

لم يجب، لكنه شعر بكلماتها تتسلل إلى قلبه المزدحم بالحسابات القديمة.

مرت الأيام، وشيئًا فشيئًا، تقلّص عالمه. لم يكن يدري أن قلبه كان يضيق كما تضيق الدروب حين تهملها الخطى، كان يظن أنه يحفظ كرامته، لكنه في المقابل كان يخسرهم واحدًا تلو الآخر.

وفي ليلة ماطرة، جلس وحيدًا، لا يسمع سوى وقع المطر على زجاج نافذته. نظر حوله، فإذا البيت موحش، والصمت أثقل من كل العتابات التي خزنها في صدره. كم مرّ من الوقت دون أن يطرق أحد بابه؟ أين ذهب أولئك الذين كانوا يومًا قريبين؟!

عندها فقط، أدرك أن العتاب المستمر لم يكن سوى جدار بناه حول نفسه، ظنّه حصنًا، لكنه لم يكن سوى سجن بارد، لا يسكنه سوى الوحدة.

وقفة مع العتاب

العتاب المفرط لا يجلب إلا الجفاء، فلا خير في كلمات تُقال بغرض اللوم إن لم تُفضِ إلى إصلاح. لذا، ليكن عتابنا بوابةً للتقارب، لا سياجًا للعزلة. وكما قال الإمام علي : عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه «2».

طرق العتاب الإيجابي:

1. الكلمة الطيبة: اجعل اللوم همسًا، واختر كلماتك بعناية حتى لا تتحول العتابات إلى طعنات.

2. التجاهل الذكي: أحيانًا، يكون الصمت أبلغ من أي عتاب، ويترك أثرًا أعمق في النفس.

3. التواصل الودود: بدلاً من المواجهة القاسية، قل: ”أشعر أن هناك سوء فهم، وأود إصلاحه.“

4. التسامح بوعي: المغفرة لا تعني الضعف، بل تعني قوة النفس وسمو الروح.

5. القدوة الحسنة: عامِل الآخرين كما تحب أن تُعامَل، وسترى الفرق.

فليكن العتاب جسرًا نعبر به إلى القلوب، لا حاجزًا يقصينا عنها.

1» ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 - الصفحة 57
2» ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 - الصفحة 58
أخصائي التغذية العلاجية