في العيد.. لا تجرح باسم المحبة
في كل عيد، حين تلتقي العائلة في بهجة اللقاء، وتفوح روائح القهوة والهيل في أرجاء البيوت، تتوزع المجالس بين النساء والرجال، في جلسات يملؤها الضحك وتنساب فيها الحكايات كما ينساب العطر في الأرجاء. تتعانق الأرواح قبل الأيادي، وتتصافح القلوب رغم المسافات والاختلافات، لكن خلف كل هذه البهجة المعلنة... هناك حكايات لا تُقال بصوتٍ عالٍ.
في مجلس النساء، كانت سارة تبتسم، تحاول أن تلتقط من العيد جماله، لكنها كل عام تسمع السؤال ذاته: ”متى نفرح بكِ؟“ صوت خالتها لا يفقد حرارته، لكن سارة بدأت تفقد صبرها. وفي زاوية أخرى، التفتت عمتها إليها: ”هل غيّرتِ عملكِ؟ لماذا لم تتقدّمي؟“ أسئلة مكسوة بالاهتمام، لكنها كالإبرة، صغيرة، دقيقة... ومؤلمة.
دخلت ليلى في فستان أنيق ووجه يزهو بالفرح، لكن سرعان ما انطفأ بريقها حين همست إحداهن: ”هل من جديد؟ أم ما زلتِ تنتظرين؟“ ابتسمت ليلى، لكنها لم تُجب، بل غيّرت مسار الحديث كما تغيّر الريح اتجاهها هربًا من عاصفة.
أما نوال، فجلست قوية الملامح، هادئة النبرة، لكن قلبها هشّ. طُرح عليها السؤال كأنه طُعن: ”ألم يكن فيكِ صبر؟ ألم تتعجّلي؟“ أغمضت عينيها، لا لتُخفي دمعة، بل لتحفظ ما تبقى من كرامة، من وجع لا يحب الظهور.
وفي مجلس الرجال، جلس أحمد يُقلّب هاتفه، متظاهرًا بالانشغال، لكن صوت عمّه اخترق صمته: ”ما زلت بلا عمل؟ ثلاث سنوات مرت، ما شاء الله!“ ضحك أحمد بخفة، وابتلع مرارة السؤال، كأن الكلمات سلبت منه صبره، وتركت فيه جرحًا لم يُعرَض للشفاء.
ناصر، العائد من الغربة، لم يكن أفضل حالًا. سأله الجد بصوت يحمل من القلق ما يكفي لإشعال الأسئلة: ”لماذا عدت؟ لم تُكمل؟ هل ضاقت بك الغربة؟“ أجاب ناصر: ”اشتقت إليكم.“ لكن داخله كان يصرخ بأجوبة كثيرة، تجارب لم تُروَ، وخذلان لا يُحكَى.
وفي زوايا هذه الحوارات، جلس سليمان، يحتسي قهوته، محاطًا بهدوئه. سأله أحدهم مازحًا: ”ما زلت أعزبًا؟ تأخرت علينا!“ ضحك سليمان وقال: ”ربما تأخرت، لكنني أؤمن أن كل شيء يأتي في وقته... والله يكتب الخير.“ ثم أضاف بابتسامة خفيفة: ”وبيني وبينك، العزوبية لها محاسنها!“ ضحك الجميع، وانقلب الحرج إلى طرفة، واللحظة الحرجة إلى مساحة من الفرح.
الخاتمة في مجالس العيد، لا تُوزّع الحلوى فقط، بل تُلقى الكلمات، بعضها محبّ، وبعضها مُثقل بالنية الطيبة لكنه يحمل من الألم ما يعكّر صفو اللقاء.
ليس كل ما يُقال يَجب أن يُقال، وليس كل سؤال مناسبًا لكل وقت. إن أعظم ما يمكن أن نحمله معنا في لقاءاتنا ليس الهدايا، بل الرفق، ولين الحديث، وحُسن الظن، والصمت الذي يَرحم أكثر من الكلام الذي يُربك.
ففي العيد، نحن لا نحتاج إلى إجابات قدر حاجتنا إلى دفء، لا إلى محاكمات بل إلى أحضان، لا إلى العتاب بل إلى دعاء خفيف يلامس القلب..