النبي محمد بن عبدالله ( صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام )
النموذج الإنساني الكامل
إن العنوان المذكور آنفاً ليس من جعبتي أو من بنات أفكاري .. بل هو قول العالمة البريطانية كارين أرمسترونج عن عظيم سلطت عليه الضوء حتى أعطته هذا الوصف الكمالي .. إنه النبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم .. حيث وصفته بقولها : إنه الإنسان الكامل والنموذج الإنساني .
لن يصدق القارئ الكريم إنني أجلت وسوفت كتابة رسالتي التي ستكون فاتحة كتابي ( رسائل من كشكول الحياة 7 أجزاء ) والذي يقع في 243 رسالة ، حتى حين طباعة الكتاب ،ولما شرعت في وضع بصماتها .. زارني التردد والخوف !!
أعـدتها ورتبتها ثم توقـفت ! ثم كتبتها وأعدت صياغتها حتى شجعت نفسي في المضي قدماً .. لما لا وهي تخص سيد الكائنات وأفضل المخلوقات .. رسالتي ذرة من نقطة في بحر لجي عن النبي العربي الذي أختتم الله به أنبيائه.. وافتتحت أنا العبد الفقير به وريقات كتابي المتواضع .. ذلك كوني احترت في وصف هكذا إنسان .. وكون قلمي وقف عاجزاً عن التعبير عنه والإفصاح عن جوهره .
صراحة ،لقد أحترت في إختيار وإنتقاء الكلمات التي أنصفه بها .. ففي باقي رسالاتي المتنوعة والبالغ عددها مائة ونيف .. والتي كتبتها من عدة سنوات.. كنت أسرد الكلمات سرداً وأمدها مداً وأصفها صفاً ومن دون شعور مني .. كان القلم يسير وأنا أتبعه .. ويقف وأنا أتنفس الصعداء من سرعته .. حتى أنتهي من ختم الرسالة وطيها وإلحاقها بباقي أخواتها .
أما عن رسالة هذا الإنسان الكامل .. فالوضع مختلف هنا.. فكلما كتبت حرفاً وأكملته ليصبح كلمة ثم أشبعتها لتصبح جملة .. فأضعها في ميزان العدالة فأجد نفسي غير عادل وبعيد عن الإنصاف في قول الحقيقة .
أعترف إني نويت وإنما الإعمال بالنيات ولوجه الله أن أبدأ كتابي رسائل من كشكول الحياة برسالة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله .. لكن كلما فكرت فقط في وضع بصمات هذا المخلوق الإنساني .. عجزت وتراجعت خوفاً وهلعاً فأرمي بقلمي .. وقلت سأكتب عنه قبل عرض أول جزء من كتابي للطباعة والنشر.
سيقول البعض إن لديك مبالغة ومحاباة كونك مسلم وستكتب عن نبي المسلمين !
كي أكون صريحاً ومنصفاً في نقل رسالتي لكم .. أجهدت عقلي وصفـرت ذاكرتي ونظفتها كما يقولون بالانجليزي عملت ريسيت قبل أن أنيخ براحلتي أمام ميدان هذا الإنسان العظيم .. فقلت يجب أن أبدأ من الصفر كي أكون محايداً وبدون أي آثار أو ترسبات في ذاكرتي خلفتها بيئة والديّ اللذان ربياني أو ما تعلمته من مدرستي أو من خطباء مجتمعي .
كنت متيقن كل اليقين إن يوماً ما ستسقط رسالتي هذه بين يدي من لا يدين بدين المسلمين ويريد أن يعرف أو يتعرف على نبيهم الذي أرسل للناس كافة بإدعاء بني قومه عن الله جل وعلا .. والذي هوجم من قبل بعض الكتاب الشرقـوبيـين كسلمان رشدي أو كرسامين الكريكاتير الغربييـن .
أول ما عملت عند شروعي كتابة الرسالة وتحديد أبعادها عن خاتم الأنبياء وما هي مواصفاته .. أن اجعلها أول رسالة ألقي بها أمام أعتاب القراء .. فإنني وكلما تبادر إلى ذهني أسم النبي صلى الله عليه وآله .. تتبادر معه كلمة المعلم الإنساني الكامل .. ويتركز تفكيري على الحديث النبوي الشريف والأكثر شهرة بين البشر : ( إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق )
عقلي يخبرني إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً لم يبعثوا من أجل عبادة الله فقط .. ولا من أجل جر الناس وسحبهم خلفهم كي يتآمروا عليهم كما قال البعض .. حاشاهم .. فالله غني عن العالمين .. وحتى إن لم يعبده أحد في هذه المعمورة أو حتى في كل ذرة من هذا الكون الواسع ..يبقى جل جلاله غني عنهم ..قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم :﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(8)سورة إبراهيم
فلن ينقصه شئ إذا لم يعبد ! قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (15) سورة فاطر
ولن يزداد شيئاً إذا عبده كل البشر ! قال تعالى : ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (6) سورة العنكبوت
عقلي يقول إن ربي أرسل إلينا معلمين يحملون رسالة تكليف تقع على عاتقهم وهي تهذيب الأخلاق ونشرها بين الناس كافة .
لكن ماذا يقصد النبي صلى الله عليه وآله بقوله إن مهمته هي إتمام الأخلاق .. هل يعني إنها كانت ناقصة قبل مجيئه وتحتاج إلى من يكملها .
وقال النبي صلى الله عليه وآله أيضاً : إن الله لم يبعثني معنّتا ولا متعنتا .. ولكن بعثني معلما ميسرا .
عقلي ولبي الذي يخاطبه القرآن فهم شيئا .. إن هناك أخلاق حميدة وجميلة لدى الإنسانية خلقت مع خلق الإنسان .. وهي نزعة الخير الموجودة فيه .. والأنبياء بعثوا كي يوقظوا تلك النزعة الطيبة المدفونة فيه. لتكون قانون معاملته وخط لسيره .. أو بمعنى أصح يصـقـلوها ويشذبوها بتعاليم السماء كي تكون مهذبة .. لكن تبقى الإنسانية ناقصة وتحتاج إلى إكمال لتكون في حالة ( الكمال ) في الأخلاق .
إذا الأنبياء عليهم السلام معلمون بعثوا لتهذيب النفوس .. والنبي محمد صلى الله عليه وآله معلم أيضا لكن بتميز .. وبعث لإتمام ذاك التهذيب ( الناقص ) .. أي المعلمون السماويون روضوا النفوس والمعلم الأخير بعث كي يكمل ذاك التعليم ويتم ذاك التهذيب .. إذا الغاية من إرسال النبي محمد صلى الله عليه وآله رحمة لنا كي يعلمنا ماينقصنا .. ولهذا تم إختياره وتكليفه كي يلقي برسالة عامة إلى كل البشر و المخلوقات إلى يوم القيامة.. قال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ (107) سورة الأنبياء
الآية الكريمة السابقة تشير إلى حاجة الناس أو المخلوقات بمعنى أوسع إلى من تتجسد فيه كل الخصال ليكون معلم الإنسانية وحامل لواء الرحمة بينهم .. وهذا المعلم يجب أن تتوفر فيه كل خصال الكمال والنبل وجميل الأخلاق كي يكون كفئً لذاك التعليم .. وإن كان عكساً فلا يصح أن يقوم بهذا الدور .. ففاقد الشئ لا يعطيه كما يقول العرب .. أي فاقد الماء لن يسقيني ماءً !
إذا عقلي يرفض أن تكون الأية الكريمة : ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾﴿أَن جَاءهُ الْأَعْمَى﴾(1:2) سورة عبس قد نزلت في وصف رسول الله .. حاشاه وأرفع الله مقامه .. فكيف للنبي العظيم والمعلم الأكبر للعالمين وقدوة الخلق أجمعين أن يعبس في وجه أعمى وقد بعث رحمة للعالمين .. وهو معلماً للكمال الأخلاقي كما وصفه القرآن الكريم بكماله : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(4) سورة القلم
هنا عقلي يقف أمام تفسير هذه الآية بإنها حتماً نزلت في معلم عظيم يحمل كل معاني السمو الإنساني .. وإن آية العبوس نزلت في شخص تنقصه الأخلاق .
أعتقد والكل يتفق معي .. إن أي إنسان عادي ومن العوام .. وحتى إن لم يكن متعلماً .. وبغض النظر عن دينه أو معتقده .. ومن باب الإنسانية ومن باب الأخلاق .. لا يتوافق ولا يحتمل أن يعبس أي أنسان يحمل صفة الأدميين بوجهه أمام حيوان أعزكم الله أو طفل أو حتى أمام نفسه في المرآة ،فما بالك أن يتهم نبي وأي نبي خاتم الرسل وسيد المخلوقات والأنبياء من عالم الذر حتى الحشر ،ومن كان قاب قوسين أو أدنى من الملكوت السماوي، وأمام من ؟ أمام رجل فقير و أعمى .
أي إن إنسان هذا اللي يحمل صفة العبس ويكون حاملاً للرسالة ! إنها تتناقض مع وصف الموصوف وعين ماهو معروف من الأخلاق ، فلو عينت كي اختبر الأرواح لتنظم إلي عالم آدم لما أخترت من يعبس فما بالك بمن سيكون نبياً ورسولاً ومصلحاً يهدي للتي هي أقوم ، فالإبتسامه مطلب أساسي لسمو الأخلاق والبشاشة أمر بديهي للباقة البشر وتحابهم .. فما بالك أن تصدر من معلم المعلمين وأستاذ المهذبين ،الذي وصل لمرتبة العلا والكمال خلقاً ومكاناً ،حتى توقف جبرائيل مطيعاً لأمر ربه ، وحتى أناخ البراق مكانه ، فلن يبرح من هنا سوا النبي العظيم فهو أجدر وأحق بالمثول في تلك الهيئة والمكانة المهيبة ، حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى حتى بلغ سدرة المنتهى !! فحاشاه أن تصدر منه هذه التراهات و التلفيقات التي تخالف أبسط قوانين الأخلاق لدى البشر وغير البشر .
إنه رحمة ولب الرحمة ومصدر الرحمة بقول الباري لكل العالمين كافة ، بشراً كانوا أو دواب أو شجر أو مدر، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمتاز بأمور لم توجد في غيره من الأنبياء وهو سيدهم .. لقد اصطفوا خلفه ليؤمهم في صلاة الأنبياء العظمى والوحيدة ،في ليلة أسري به إلي المسجد الأقصى ثم أعرج به إلى السماء .. كيف لبشر
أن ينال تلك المنزلة الرفيعة .. فمضى رسول الله بأبي هو وأمي إلى منزلته العظيمة التي يغبطه بها كل العالمين من خلق السماوات و الأرضين من الأولين والآخرين.
العبس أو العبوس نقص والله لن يقرب ناقص إليه ليكون سيد خلقه وخاتم رسله !! .. وأنا وأبي وأمي وكل الناس .. لن يقبلوا بنبي معلم ناقص يعبس في وجه الناس .. إننا وبالفطرة نحتاج ونسأل ونطلب معلماً كاملاً نقياً تقياً صافياً تتجلى فيه كل سمات الأخلاق .. كي يكون أستاذاً لنا ومعلماً لنفوسنا .. كي ينير دروب حياتنا ويخرجنا من الظلمات إلى النور .. قال تعالى في محكم كتابه .. بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِالْحَمِيدِ﴾(1) سورة إبراهيم
إنه الرحمة الحقة .. شجرة الرحمة التي تتجلى لكل الخلق كي يقطفوا من ثمارها .. الأمر بسيط ولايحتاج إلى تعقيد في الشرح .. النبي صلى الله عليه وآله بعث كي نبتسم أمام الناس وتكون البشاشة عنوان لنا .. فقد روي عنه إنه قال : ( النظر في وجه المؤمن عبادة ) المؤمن البشوش والمؤمن الودود .. فالابتسامة عزيزي والكلمة الطيبة هي من عناوين الرحمة والشفقة والمحبة كي يسود العالم السلام والحب .. قال تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾ (24) سورة إبراهيم
لإكمال رسالتي عن هذا العظيم .. فتحت القرآن الكريم كي أبحث عما قيل فيه .. فوقع بصري على الآية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم:﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(4) سورة القلم
لقد بدأت الآية بــ ( وإنك ) والإشارة هنا لمحمد صلى الله عليه وآله .. لقد خاطبه الله تشريفا لذاته .. وتعظيما لمقامه قائلا : وإنك لعلى خلق عظيم .. إن الله عز وجل لم يكتف بالإشارة إلى ُخلقه عليه وعلى آله الصلاة والسلام .. بل أكد على هذه الأخلاق وأعطى مرتبتها مرتين باستعمال حرفي التوكيد ( إن ) و ( اللام في لعلى ) ووصف هذه الأخلاق بالعـظمة والمجد وهي أعلى الرتب وأرقاها وفوق قمة سنامها بما يمكننا تسميته بالكمال المطلق و العـظمة المطلقة في التعظيم والتفخيم والتمجيد .
و اقتضت حكمة الله في إختيار ووصف العظمة في الأخلاق .. إرسال رسالة إلى أصحاب الألباب ونخبة العقال وذوي الإدراك .. كي تحتار وتختار وتدقق عقولهم بما تؤدي وتشير وتؤول إليه معاني الآية الكريمة .. فنستنتج من قول الباري : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) إلى التفاتة مهمة وهي :
استقصاء وإحتواء وإدراج وإدخال جميع أنواع الأخلاق بأصولها وفروعها تحت لفظ ( خلق ) أي في كيس وجعبة الخلق .. وخلق يفيد الكثرة والتعددية .. ولهذا يندرج تحت كل الخلق كل ما هو نبيل وجميل وسوي في السمو الإنساني والرقي الآدمي.
وبلوغ المنتهى والإستعلاء لوصف هذا الإنسان وماهية ومعدن ُخـلقه وإنصافاً لمكانته .. تم وضع مكانته في العلا والعلو أي الكلمة ( على ) والتي تفيد الاستعلاء والاستيلاء فوق مدرسة الأخلاق وإدراجها في دوحة خلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله ..
وإنه ليس ذو ُخلق فقط .. بل يقف على كل الخلق ويسمو على كل الصفات النبيلة للأخلاق.. أي أن مكانته وذروتها بلغت التربع على قمة جبل الأخلاق وأصبح الإنسان الوحيد الكامل والمؤهل كي يكون الخاتم للأنبياء المعلمين السابقين في مدرسة الأخلاق الحميدة .
لذلك جعـل الله جل وعلا الأنبياء في مكان الصفوة من بني الإنسان وجعلهم معلمين وأرسلهم للبشر ، وجعل لكل نبي مكانة ودرجة ، وميز بعضهم على بعض قال تعالى : ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ (21) سورة الإسراء
ورفع منزلة سادتهم وأسماهم بأولي العزم وهم خمسة ، إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وآخرهم محمد عليهم وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام ، هم المعلمين النخبة وأسياد البشر كافة لمدرسة الأخلاق الإنسانية ، وجعل مكانة خاتمتهم سيداً لهم وقائدهم وقدوتهم ، هو كما قال العالم البريطاني المسلم خوجة كمال الدين: ( محمد المثل الأعلى للأنبياء )
فخاتم الأنبياء يجب أن تتوفر فيه مواصفات ومميزات خاصة تظهره في صورة الكمال الإنساني كي يكون بئراً تسقى الآدميين العطاشى بدلو الأخلاق الذي لا ينضب ، هذا الخاتم و النبي المميز يجب أن تتوفر فيه صفات الإنسان الكامل بكل الإنسانية العالمية وصاحب الكمال الذي يصلح عقله وفكره وعطاءه لكل مكان وزمان ، حتى تجلت تلك الصفات في شخص واحد وهو النبي محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم ، الذي أختصه الله بخصائص الخاتم الذي بعث من أجل إتمام الأخلاق الإنسانية الحقة ، والله يعلم إنه الأجدر والأصلح لتلك المهمة ، فقال في محكم كتابه ، بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (40) سورة الأحزاب
وهي التي تركت بصمة في نفسي ، هي قول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ (107) سورة الأنبياء
فالخالق أولى بخلقه وأعلم بحاجتهم ، والله سبحانه شمل رحمة محمد للعالمين جميعاً ، فلم يحدد كون العالمين كل البشر الذي يمشون على الأرض ، أم العالمين كل حيوان يدب على الأرض مهما كبر أو صغر حجمه .
فبمجرد قراءتي للآية الكريمة أتذكر تلك القصة التي قرأتها في مجلة قديمة وأنا أنتظر دوري عند الحلاق والتي تقول ، إن يوما كان الرسول صلى الله عليه وآله يفترش الأرض والحجر وسادة له ، فلما أصبح فجراً وأراد القيام ،وإذا بقطة نائمة على كمه الشريف ، فأراد النهوض لأداء الصلاة ، فما كان منه بأبي هو وأمي وبمشاهدة من حوله من الصحابة وأولهم أبا الحسين عليه السلام ،إلا أن أخذ خنجراً وقطع طرف كم ثوبه كي لا يوقـظ القطة ويعكر صفو نومها .
ولن أنسى قصة اليهودي التي يعرفها القاصي قبل الداني ،الذي يرمي الأوساخ والقاذورات يوميا عند باب النبي صلى الله عليه وآله ، فلما غادر النبي يوما بيته لم يجد أوساخاً ، فتعجب ! فقال هناك خطب ما قد حدث لجاري اليهودي ،. فذهب لزيارته وطرق باب بيته حتى ردت زوجته فسألها النبي العظيم عنه وقالت إن زوجها مريض ، فأستأذن النبي الدخول وزار اليهودي وأطمأن على صحته ، حتى بكى اليهودي ولم يتمالك نفسه ورمى برأسه في أحضان النبي وأعتنق الإسلام الرحيم .
قال تعالى : ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (128) سورة التوبة
التعبير هنا يقول : من أنفسكم ، أي منكم أيها البشر من لحمكم وليس ملك أو جان ، أي منكم ياعرب ومنكم ياقريش ومنكم يابني هاشم ، إنسان من عمق الصحراء ، بسيط ومتواضع ، يفترش الأرض ويأكل مع الفقراء قرص الشعير ، لكن سيد للأخلاق ،وأتى ليتمم مكارم الأخلاق كي تسعدوا وتهنئوا، فهو منكم ورحمة لكم ، ماذا تريدون أكثر من هكذا كرم من الخالق رحمة للمخلوق .
إن تعريف الرحمة كبير جداً بحيث لايتسع لمعانيه الكلامية ،ولكن لايمنع أن نضرب عدة أمثلة التي لا حصر لها ، مثلاً هل المراد بالرحمة طريق الهداية التي رسمها الله وبعث من أجل نشرها الأنبياء وأتمها بنبيه محمد صلى الله عليه وآله كي تكتمل نفوسنا لننعم بحياتنا الدنيوية المؤقتة ونسعد بآخرتنا الدائمة ، أم الرحمة تهيئة الأجواء حيث تتناغم وراحة البشر مع بعضهم البعض ، أو ربما الإنسان والحيوان معاً ، أو الحيوان مع الحيوان ، وهل هذا التعبير صحيح ويتقبله العقل .
سنضرب الآن بعض الدروس عن الرحمة الإنسانية والتي أمتاز وأختص بها الدين الإسلامي عن غيره من باقي الأديان .
لنأخذ مثلاً الاهتمام بالجار ، وخاصة اليتامى منهم ، حيث حرص أن لا تصل رائحة الطعام إليهم وهم جياع ، وكذلك الاهتمام بالوالدين وإن منزلتها بعد عبادة الخالق ، وتحريم حتى التأفف أمامهما أو النظر في عيونهما أو تقدم الخطى قبلهما ، وبغض النظر عند ديانتهما وعرقهما .
مثال آخر ، فلقد أجاز الإسلام وكباقي الأديان السماوية ذبح بعض البهائم لأكل لحومها والاستفادة من باقي فضلاتها ، لكن قنن طريقة الذبح ووقتها ووضعها ، مثلاً أن تعطى الذبيحة ماءً قبل الذبح ، وأن تستقبل القبلة وأن تكون بآلة حادة كالسكين كي لا تتعذب البهيمة ، وفي موضع خاص ، وإن لاتكون البهيمة أمام مرأى أبنها أو أمها ، فهل لهذه الرحمة أثر نفس الإنسان والحيوان ؟
قال تعالى:﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ (159) سورة آل عمران
رحمة الله واسعة كما يقول البعض ، لكن هل نستطيع أن نرى رحمة الله ، هل متنا ورأينا كيف يرحمنا الله يوم القيامة ، إذا كيف نتحسس رحمة الله ، وكيف نشعر بهذه الرحمة وماهي أبعادها وطريقتها ومقدارها وقربها وبعدها .
عقلي يقول ، نحن لانستطيع أن نرى الله ، لكن يمكن أن نحس به عن طريق عقولنا ، ويمكن أن تحسس برحمته عن طريق أنبياءه وأصفياءه،والطيبين والصالحين من خلقه .
مثلاً ، إذا رأينا كيف يرحم النبي صلى الله عليه وآله البهيمة ، ويرحم الجار والأسير والجريح والسبايا من الأعداء ، وكيف يشدد ويذكر بالإحسان لهم ماداموا بحضرة المسلمين ، هذا مثالاً عن الرحمة .
مثلاً ، بكاء حفيد النبي صلى الله عليه وآله الإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام يوم كربلاء على أعداءه خوفاً أن يدخلون النار بسببه ، مثالاً عن الرحمة .
لنتمعن في الأمر قليلاً ، فالإمام الحسين عليه السلام حفيد وتلميذ جده رسول الله صلى الله عليه وآله، وأقل منه منزلة ، فإذا كانت رحمة الحسين هكذا من العظمة ،فما بالك برحمة العظيم الأكبر جده أفضل الخلق أجمعين وسيد الأنبياء والمرسلين ، ولو أرتقينا إلى أعلى بما اندهشنا بأمثلة عظيمة من الرحمة كالتي ضربناها عند الإمام الحسين عليه السلام ومن هو أعلى منه مرتبة ومنزلة جده النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وهما من البشر من ولد آدم يأكلون الطعام كعيسى وأمه عليهما السلام ، فما بالنا برحمة الخالق الله الجليل أمام رحمة المخلوق !!
قال تعالى : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ (53) سورة الزمر
لنحاول أن ندخل في أعماقه وندرس بعض صفاته ، مما قرأت ومما قيل ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله كما روى المؤرخون دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا فاحش ولا عياب ، ولا مداح يتغافل عما لا يشتهي ويؤيس منه ، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، ومالا يعنيه وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ،ولا يعيره ،ولا يطلب عوراته،ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه.
إذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث من تكلم أنصتوا له ، حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون ، ويتعجب مما يتعجبون ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه.
على الحلم والحذر والتقدير والتفكير فأما تقديره ففي تسوية النظر ، والاستماع من الناس ، وأما تفكيره ففيما يبقى ، ولا يفنى وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه .
وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته ، والقيام فيما هو خير لهم ، جمع لهم خير الدنيا والآخرة.
كان سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مشاح ، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه راجيه ولا يخيب فيه.
يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام :
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ، ولا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس عنهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويصوبه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ، أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ، ولا يجاوزه إلى غيره ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة وأعظمهم عنده منزلة ، أحسنهم مواساة ومؤازرة .
ووصفته زوجته خديجة عليها السلام إنه يصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويُكسب المعدوم، ويُقري الضيف، ويُعين على نوائب الدهر .
وقالت أم معبد لزوجها في وصف أخلاقه صلى الله عليه وآله لما مر بها في رحلة الهجرة :
إن صمت فعليه الوقار ، وإن أمر تبادروا إلى أمره ، لا عابس ولا مقند .
عزيزي القارئ الكريم ، ما أسلفنا ذكره من صفات عن معلم الإنسانية قليل وأقل من القليل في مقامه ،لكن هي جانب مما شاهده ممن عاصروه وعاشوا معه ، لكن ماذا قال عنه المستشرقون الذين يدينون بالمسيحية :
يقول المستشرق آرثر جيلمان : لقد اتفق المؤرخون على أن محمداً كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة من صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع وكان لا يشرب الأشربة المسكرة ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً.
و يقول كارل بروكلمان :
"لم تشبْ شائبة من قريب أو بعيد فعندما كان صبياً وشاباً عاش فوق مستوى الشبهات التي كان يعيشها أقرانه من بني جنسه وقومه .
ويتحدث توماس كارلايل قائلاً:
لوحظ على محمد منذ صباه أنه كان شابًا مفكرًا وقد سمّاه رفقاؤه الأمين رجل الصدق والوفاء الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة . . وإني لأعرف أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام ،فإذا نطق فما شئت من لبّ ! وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريمًا برًّا رؤوفًا تقيًا فاضلاً حرًا،رجلاً شديد الجدّ مخلصًا ، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة،جمّ الِبشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس،بل ربما مازح وداعب،وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق، وكان ذكي اللب،شهم الفؤاد، عظيمًا بفطرته،لم تثقفه مدرسة ،ولا هذبه معلم ،وهو غني عن ذلك، فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء .
ويتحدث الباحث الروسي آرلونوف عن نبي الرحمة، ويقول :
اشتهر محمد بدماثة الأخلاق ،ولين العريكة،والتواضع وحسن المعاملة مع الناس،قضى أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة،وكان جميع أقاربه يحبونه حباً جماً،وأهل مدينته يحترمونه احتراماً عظيماً،لما عليه من المبادئ القويمة،والأخلاق الكريمة،وشرف النفس،والنزاهة.
أيها الناس ،ايها البشر كافة ، يامن تبحثون عن قدوة حسنة، قدوة لمعنى الإنسان الكامل ،إنكم لم ولن تجدوها إلا في محمد صلى الله عليه وآله ،سيد الكونين من عرب وعجم ، ويا أيها الناس الذين تتطلعون إلى كرامة الإنسان الحقيقية ،إنكم لن تعثروا عليها إلا فيما أتى به دستور محمد صلى الله عليه وآله وفي سيرته الكريمة ،ويا من تتحرقون شوقا إلى المساواة والعدل الحقيقيين إنكم لن تجدوها إلا في ميزان محمد صلى الله عليه وآله،الذي جعل الناس سواسية كأسنان المشط ،وأقام لهم الموازين القسط ،ويا أيها المستعبدون للأهواء ،إنكم لن تريحوا رائحة الحرية ،ولن تتنفسوا بعبقها إلا في حديقة محمد صلى الله عليه وآله ،ويا أيتها النساء اللاتي غرّر بكن السفهاء،وتاجروا بأعراضكن،وأجسادكن واستعرضوا جمالكن في الملاهي والفنادق،لا يريدون منكن إلا إشباع شهوة،واقتناص لذة ولعب بلحم وعرض ،إلْجأن إلى حمى محمد صلى لله عليه وآله الذي جعل الجنة تحت أقدامكن وحماكن حتى من خائنة الأعين ،ويامن تبحثون عن دستور يحمى الإنسان من داخله قبل خارجه ،لن تجدوا أنصف وأعدل وأوضح ميزان للحق في الأرض والسماء ،كدستور محمد بن عبدالله وهو القرآن الكريم .
سيدي القارئ والمتمعن ، أقولها ملء فمي وبدون عاطفة كوني مسلماً ، إن هذا المعلم العظيم أحق أن يسمى بالإنسان الكامل ،إنه خير متمم للأخلاق إنه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم .
الأنبياء بعثوا لتهذيب الأخلاق والنبي محمد بعث لإتمام مكارمها.......المؤلف