نركض... ولكن إلى الخلف
ليست دائماً صائبة تلك الفكرة التي تقول ”استمّر في المشروع لأنك بدأت“ أو ”واصل طريقك لأن التراجع هزيمه...“ فليس كلُ بداية تستوجب الاستمرار، ولا كلُ تراجع يُعد هزيمة، بل وليس كلُ فكرة ٍ تستحق أن تُصبح مشروعاً، ولا كل مشروعٍ وُلد في لحظة حماس يستحق أن يستمر.
وإن الإصرار على السير في طريق ٍ مُتآكل أو بائد لا يُؤدي إلى نهاية مشرقة، ليس إلا إهدارا للوقت وتجاهُلا للحقائق، ومضيّاً في اتجاه يستهلك الطاقة، ويستنزف الشعور، ويراكم الندم، بل هو دليلُ على العِناد والجهالة لا على القوة، والحكمة.
في حين أن الحكمة تكمن في التراجع الواعي، وفي الانصات لصوت العقل، لا في التقدم الأعمى، أو الاستمرار بدافع العناد والخوف من الاعتراف بالخطأ، والقيادة التي تُكابر وترفض التوقّف وتُدير ظهرها للمراجعة حين يستدعي الموقف الوقوف هي قيادة لا تُجيد الإدارة، ولا تُحسن التقدير وإنما تتفنن في اختلاق التبرير وصياغة الأعذار، وتجميّل الفشل.
عقلية الخوف من التغيير
إن العقلية التي تُقدس ما اعتدنا عليه.. وتخشى المغامرة هي عقلية تُدير الحاضر بعين الماضي وتُقيّم الفرص بمنطق الخوف، بل وتُجهض التغيير باسم الاستقرار، وتُعطّل التحول بذريعة الحذر.
فهي لا تبحث عن الأفضل ولا عن الأحسن بل تكتفي بالمجرّب وتُردد مقولات مثل ”عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة“ أو ”من خاف سلم وإن تأخر“ وما شابه، وتلك هي ذات العقلية التي تُطيل عمر المشاريع الميتة. وتُمارس ما يُعرف اليوم ب ”نظرية الحصان الميت“
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ما هي نظرية الحصان الميت، وكيف نشأة، وإلى ماذا تهدف؟ وما الذي يدفع قيادة مؤسسة ما أو مشروع ما إلى مواصلة المكابرة ووهّم إدارة المشاريع الميتة بدلا من إيقافها؟ وماهي النتائج المترتبة على الإصرار غير المنتج، وماهي الحلول؟. وهذا ما سنتعرف عليه في هذه المقالة فكونوا معنا
فكرة الحصان الميت
هي نظرية رمزية تُشير إلى تمسّك الأفراد والمؤسسات بالمشاريع أو الأساليب أو الأفكار الفاشلة رغم وضوح عدم جدواها وتقوم على عباره شهيرة مفادها ”إذا اكتشفت أنك تركب حصاناً ميتاً فإن أفضل استراتيجية هي أن“ تترجل " أي لا تستمر في مشروع أو فكرة أو عادة أو سلوك لم يعُد ملائماً، ولا تُرهق نفسك بمزيد من العناد.
لماذا نحتاج إلى النظرية؟
ظهرت هذه النظرية في ثمانينات القرن الماضي ضمن مذكرات أمريكية ساخرة، ثم استُخدمت تدريجيا ً في التدريب الإداري لتوصيف حالات العناد المؤسسي، والخوف من التغيير، والجمود أمام المتغيرات.
وهي تهدف في جوهرها إلى لفت الانتباه للهدر الكبير الناجم عن الإصرار على الفشل، وتحفيز القادة على الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء، وتبيّين الفرق بين ”الإصرار المُنتج“ والإصرار غيّر المُنتج ”وكمثال على ذلك ما قام به الفقيد المرحوم“ المُهندس ”جاسم آل قو احمد“ «رحمه الله تعالى» وهو نمط فريد من الرجال أعطاه الله تعالى من فضله مواهب العلم وحسن الخلق وسعة التجربة وفضل التدبير، فكان رحمه الله تعالى يقدم كل ما يملكه من خدمات لخدمة مجتمعه وأهله حتى اصبح مقصداً لكل من يريد أن يبدأ مشروعا شخصياً أو خيراً في بلدتنا الطيبة، وعندما واجه مكتبُنا الهندسي الاستشاري انخفاضا في الطلب على المخططات الهندسية، كان أمام الفقيد الراحل خياران: إما الاستمرار في نفس النمط التقليدي وهو ما يُعد إصراراً غير منتج ”أو اتخاذ قراراً استراتيجياً بتغيير نموذج العمل والتحوّل إلى تقديم خدمات التصميم الداخلي ثلاثي الأبعاد، وقد أختار الثاني ليتماشى مع الحاجات الجديدة للسوق وهو ما يُمثل“ الإصرار المُنتج " إضافة إلى البقاء على الخيار الأول.
لماذا يُكابر المدراء
قد يُخطئ المدراء في القرار أو في التوقيت أو في التقدير، وهذا أمرُ طبيعي، فالخطأ جزء من التجربة البشرية ولا يخلو منه عمل مهما بلغت دقته، ولكن غير الطبيعي أن يظل المدراء يدافعون عن ذلك القرار أو تبريره رغم وضوح آثاره السلبية، أو فرضه كأمر واقع على الفريق رغم تكشُّف سلبياته.
الدوافع النفسية من وراء المكابرة
إنني اعتقد إن المكابرة لم تأتي من فراغ أو من مجرد سوء تقدير أو من وهّم، بل تتغذّى على دوافع أعمق وأكثر تعقيداً كالخوف من فقدان الهيبة إلى الغرق في وهم العصمة إلى ضعف ثقافة الاعتراف بالخطأ داخل المؤسسة.
فقد نجد أن بعض المدراء يختار أن يسير في الطريق الخطأ لا لأنه لا يعرف أنه خطأ بل لأنه لا يتحمّل نظرة التراجع أو لا يريد أن يُقال عنه ”تراجع في قراره“ وهنا يبدأ المشروع أو المؤسسة بدفع الثمن لا بسبب الخطأ وحده، بل بسبب الشخصية التي ترفض أن ترى في التراجع نضجاً وفي التصحيح قوة.
ومن هذا المنطلق أرى من الضروري أن نميز بين ثلاث حالات إدارية تتشابه ظاهرياً لكنها تختلف جوهرياً في الدوافع والنتائج وهي:
أولاً: المكابرة والتي تعني الإصرار على قرار أو موقف أو إجراء قد ثبت فشله بدافع الحفاظ على الهيبة أو رفض الاعتراف بالخطأ مثل مدير مشروع أو مؤسسة يرفض إيقاف منتج فاشل رغم تراجع الأرباح ووضوح فشل التجربة، بل ويُقصي كل من يُعارضه بحجة ”الحفاظ على التماسك الإداري“
ثانياً: العناد وهو سلوك بشري مألوف ينطلق من قناعة شخصية بوجهة نظر معينة، وقد يكون عناداً صادقاً وقابلاً للمراجعة إذا ظهرت أدلة معاكسة له مثل ”مدير يرفض إدخال التحول الرقمي في الإدارة لأنه مرّ سابقا بتجربة فاشله لكنه يًعيد النظر بعد عرض رؤية ناضجة من أحد أعضاء الفريق“.
ثالثاً: التصلب في الراي وهو حالة من الجمود العقلي والإداري حيث لا يرى في التغيير فرصة أو فائدة، بل تهديداً وخوفاً، وهو غالبا ما يرتبط بعقليات تقليدية أو نظم بيروقراطية متشددة مثل ”إداري يصّر على تطبيق لائحة تنظيمية قديمة رغم تغيّر الأنظمة واللوائح والقوانين مبرراً موقفه بعبارة“ هكذا تعلّمنا وهكذا نعمل "
إن القيادة التي تقع في فخ المكابرة هي قيادة لا تدمّر قراراتها فقط، بل تُربك بيئة العمل، وتُقصي الأصوات العاقلة، وتهدر الطاقات وتقتل روح التطوير، ولهذا تبقى من أعظم صفات القيادة الناضجة هي المرونة في المواقف، والنضج في التراجع، والشجاعة في الاعتراف، فليست القيادة أن تُصيب دائما، بل أن تعرف متى تتوقف، ومتى تُصحح الخطأ، ومتى تبدأ من جديد، ولذلك يمكن القول إن المدراء يستمرون في المكابرة لأسباب عدة، ولعل من أبرزها التالي:
1 - الخوف من كسر ”هالة المدير“
في كثير من البيئات التنظيمية والمؤسسية لا يُنظر إلى المدير بوصفه موظفاً مسؤولا يمكن تقييمه وإنما يُقدّم للموظفين وكأنه رمزُ لا يُمس، أو لا يُخالف، وهنا تكمن الطامة الكبرى حيث تُبنى له هالة مفرطه من العناية والتقدير ويتحول أي نقد أو اعتراض إلى كسرِ للهيبة لا إلى تصحيح المسار، وهكذا بدلاً من أن تنمو المؤسسة أو المشروع بثقة متبادلة تنمو في ظلها ثقافة الخوف والمجاملة، وذلك لأن كسر الهالة أضحى جريمة معنوية داخل بيئة المؤسسات التي تصنع الصمت المطيع
2 - البيئة التي تُقدّس المدير وتُجرّم النقد
حينما تتحول المؤسسة إلى مساحة من التصفيق الإجباري، ويُعتبر فيها النقد عدوانا إداريا فإنها لا تخسر فقط قدرتها على التقييم بل سوف تخسر روحها التنظيمية الحية، فتنمو الأخطاء تحت مظلة الطاعة وعباءة الولاء وتصبح الملاحظات عبئاً على صاحبها
3 - تضخم الذات المؤسسية والشخصية
عندما يذوب المدير في المؤسسة وتذوب المؤسسة في ذاته يُصبح القرار الإداري انعكاسا ًمباشرا لصورته الشخصية، وفي مثل هذه الحالات لا يتم التراجع عن الفكرة أو الخطة، لأنها تمثّل ”أنا المدير“ ولا يُسمح للنقد أن يمر لأنه يمس ”مكانة الإدارة“ ولذلك يُصبح من الصعب على إدارة المشاريع أو المؤسسات الميتة إيقافها وهنا تكمن المشكلة الكبرى
وقد يتبادر إلى الذهن سؤالُ مهم... " ماذا لو تجاهلنا كل هذه الأسباب واستمرينا في ركوب الحصان الميت «الاستمرار في مشروع أو في فكرة، أو في عادة، أو في نظام إداري فاشل رغم وضوح فشله» ولم نترجل عنه كما تقول الاستراتيجية فماهي النتائج المتوقعة من ذلك
النتائج والحلول
من المهم أن نُدرك ”أن ليس كل استمرار يُعد إنجازاً“ ولا ”كل تقدم يُعتبر نجاحاً“، فقد يكون التقدّم في الاتجاه الخطأ ”انتصاراً وهمياً“ أو تقدُّماً زائفاً، وذلك حينما نُصر على البقاء في مسار فارغٍ أو قرارٍ تجاوزه الزمن فالتمسك بالمألوف رغم وضوح فشله يُفضي إلى سلسلة من النتائج القاسية التي قد تصيب قلب المؤسسة وتشلّ حركتها، ومن أبرز تلك النتائج
1 - نزيف الموارد والجهود والوقت
حين تركب المؤسسة ”حصاناً ميتاً“ فإنها لا تتقدم خطوة لكنها تًنفق كأنها تسابق الزمن حيث استنزاف الموارد، وهدر الجهود، واستهلاك الوقت بلا عائد، وأن الفرق بين المؤسسة الذكية والمؤسسة المتعنتة هو أن الأولى تعيد تقييم جدوى كل دقيقة وكل ريال، أما الثانية فتصب في مشروع خاسر ثم تسأل: لماذا لم تربح؟.
إنني أرى إن النزيف الصامت الذي لا تُدركه الإدارة إلا بعد فوات الأوان هو أخطر أشكال الفشل لأنه يُربك الموازنة ويستنزف الطاقات، ويجعل الفريق يدور حول حلقة مفرغة من ”العمل لأجل العمل“ لا ”العمل من أجل النتيجة“
2 - تدهور الروح المعنوية داخل الفريق
اعتقد أن البعض يتفق معي إن قلت لا شيء يُثقل قلب الفريق كأن يعمل بكل طاقته على مشروع يعرف في قرارة نفسه أنه لا يجدي نفعاً، فقد يصمت الموظف لكنه يخبو، ويعمل لكنه لا يُبدع، ويُداوم لكنه يتمنى المغادرة. خاصة عندما يرى جهوده تذهب في اتجاه خاطئ، وأن لا أحد يصغى إليه
3 - فقدان المصداقية أمام العملاء أو المجتمع
من يعتقد أن العميل أعمى، وأن المجتمع غافل عما تقوم به بعض المؤسسات فإنه واهم، لأن المصداقية لا تُبنى بالخطب بل بالأداء، وأن أي مشروع لا يُلبي الحاجة أو الخدمة لا يتطور ولا يتحسن وبالتالي لا يمكن للمجتمع أن يثق فيه، وأن الأخطر والأسوأ من ذلك أن التمادي في المكابرة يُفسر على أنه ضعف أو تضليل مما يهدد سمعة المؤسسة بأضرار كبيرة قد تحتاج لسنوات لاستعادتها.
4 - خلق ثقافة الخوف من التغيير
البيئة التي ترفض التراجع ولا تقبل المراجعة قد تصنع موظفين يخشون التفكير ويتجنبون الاقتراح، بل ويؤمنون بأن البقاء في ”الظل“ هو أكثر أماناً من المجازفة.
مثال من الواقع
شركة نوكيا: كانت تسيطر على سوق الهواتف المحمولة في العالم حتى عام 2007م لكنها رفضت التغيير نحو الهواتف الذكية «رغم وضوح المستقبل» وتمسكت بنظام التشغيل القديم وسخرت من شاشات اللمس، والنتيجة خرجت من السوق وتم بيعها بعد سنوات من التراجع، وهذا يعني أن التمسك بفكرة الحصان الميت خسارة المعركة حتى لوكنت فارسها الوحيد
من الحلول المقترحة:
اعتماد نظرية التطوير المستدام: وهي نظرية تقوم على فكرة تحقيق التوازن بين الاحتياجات الحالية للبشر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة، والدعوة إلى تنمية شاملة طويلة الأمد تراعي الموارد الطبيعية وتحترم الإنسان وتُشرك الجميع في بناء المستقبل الأكثر استقراراً وعدلاً واستدامة، وشعارها ”لا تنتظر موت الحصان.. راقبه افحصه، طوره“ أولا بأول "
وأخيراً: يمكننا القول إن أخطر أمرين يُصيبان العقل الإداري هما الجمود في القرارات، أو النشاط العشوائي بلا رؤية، كما أن ما يُنهك المؤسسات ليس البطء في التحرك، بل حتى النشاط في الاتجاه الخاطئ، تماما مثل العدّاء السريع في الطريق المغلق.