الصداقة من منظور حقوقي
تتعرض علاقاتنا الإنسانية والاجتماعية لشيء من الضعف والانكفاء نتيجة غياب الخطوات الحقيقية التي تنطلق من تغيير باطن النفس البشرية فتقوي عراها وتجعل منها حياة خاصة يتشارك الأصدقاء فيها تكوين كيانهم المبني على حب الخير والاحترام وانصهارهم في بعض بحيث يكونوا أجسام متعددة بقلب واحد.
وقد توالت الكتابات والنصائح التي في أساسها (افعل أو لا تفعل) لمؤلفين غربيين تُرجمت للعربية في اكتساب الأصدقاء وإقامة علاقات متينة والحفاظ عليها والتأثير فيها، فشغف القارئ بتلك النصائح ليكون شخصية كاريزمية ينجذب لها عموم الناس ويُعجبون بجميل عباراتها وعذب كلماتها. إلا أن جملة الكتابات لم تكن تبني الفرد من داخله في التعامل بروح العطف والإحسان والإيثار والكرم والرحمة والشفقة وكافة الجوانب الإنسانية والحقوقية الأخلاقية.
فكان لابد من التعرض للأسس الرصينة في تكوين صداقات متينة مبنية على قاعدة عريضة من حقوق الإنسان المغيبة عالمياً، إذ تعرض الإمام علي بن الحسين السجاد زين العابدين في رسالته الحقوقية المعروفة برسالة الحقوق للعديد من البنود الإنسانية والحقوق المشتركة السياسية والقانونية والاجتماعية والأخلاقية والعبادية والتي يهمنا فيها العلاقة الأفقية بين الأحبة التي نجملها في واقعنا تحت عنوان الصداقة وإن اختلفت شروطها ومسمياتها.
إذ كثيراً ما تضمحل الآداب والقيم بين الأصدقاء في جلساتهم وطرق تحاورهم والكيفية التي يتعاملون بها عند تراجع علاقاتهم لاختلافات أو ما أشبه، فتكون سمة تسفيه المتحدث ومقاطعته قسراً علامة بارزة في أوساط الأصدقاء خاصة مع اختلاف وجهات النظر أو عند إسداء النصائح الأخوية التي قلما يتسم بها الأوفياء ويتقبلونها بين بعضهم. فما أكثر الاحتمالات السلبية من قبلنا تجاه بعض والتي نبني فيها حاجزاً من الخوف عند الرغبة في تقديم النصيحة معتقدين بنفور الطرف المقابل وخسرانه حال لم يتقبل كلامنا، فلا ننصحه ونتقبله بأخطاءه. ووفقاً للقانون الحقوقي في الوثيقة الآنفة، فإنه من الواجب إتاحة الفرصة للمتحدث لإبداء رأيه وقبول نصيحته حتى مع عدم العمل بها، والإصغاء إلى ما يطرحه للأخذ به إن كان على حق أو شكره دون الإساءة إليه أو إساءة الظن به إن كان نصحه غير صحيح ويحمل نتائج غير موفقة. بل ذهبت الوثيقة إلى أبعد من ذلك بضرورة الاحتفاظ بكل خيرٍ قاله ونسيان أي كلمة أو زلة خرجت دون قصد مع مبادلة الصديق الناصح بأفضل الكلام وأطيبه وهذا عكس ما نعيشه في حياتنا من جمع تراكمات وزلات الصديق والتشهير بها حال الاختلاف معه والإيحاء بأنه المخطئ في كل الأمور.
فما يضفي على العلاقات بين الأقران حالة من الاحترام المتبادل وتنامي حالة المحبة هو ما يبديه كل طرف تجاه نظيره من إجزال عبارات الشكر والتقدير عقب أي خدمة - وإن صغرت- كالترحم على الوالدين أو الإشادة بالجهد المبذول والذي في الغالب لا ينتظر الطرف الآخر شكراً عليه ولكنه يوطد حالة من العلاقات الحسنة لو دققنا في المواقف التي نكون طرفاً فيها. كما أن تمني الخير والسعادة للصديق وجميع ما يدخل في باب الوفاء والكرم والنصيحة الصادقة من العوامل الكبيرة في تعزيز وتمتين واستمرار العلاقة، فمع الأسف بات البعض يعيش حالة من الأنانية والحسد فيما يحصل عليه صديقه، فلا يتمنى له الخير ولا يبادله بهجته وسروره في ارتقاءه وتمنيه حصوله هو على ذلك الخير لا صاحبه.
ومن خلال رسالة الحقوق يتضح مدى البعد الإنساني والأخلاقي في التعامل مع المحيط القريب المتمثل بالأصحاب وأهل المعروف والذين يغفل عن حقوقهم الكثير من الناس باعتبارهم من المقربين، فليسوا بحاجة للرسميات مرددين عبارة بين الأصحاب تسقط الآداب !. وتحض الرسالة في بعض بنودها على إعطاء كل فرد حقه من الموقعية المناسبة له وشكره على ما يتفضل به من المعارف الحسنة وما يقدمه من نصائح وأمور خير تنتهي بفتح جسر قلبي مع الله للدعاء لذلك الوفي في ظهر الغيب وحتى دون علم منه ومحاولة مكافأته متى ما سمحت الظروف بالهدايا والمشاعر النبيلة وغيرها من الأمور المحببة في التوجيهات الرسالية.
فحتى المواثيق الحقوقية العالمية لم تصل إلى هذا المستوى من تكوين علاقة قائمة على تمتين الأواصر بين أفراد المجتمع من خلال البذل والعطاء والشعور الحاني وإشاعة حالة من الصحبة الخيرة القائمة على مبادلة كل تصرف حسن بآخر أفضل منه بالدعوة إلى إكرام الصديق ومبادلته فيما يقدمه والمسارعة لأمور الخير قبل أن يبدأ بها.
إن كل شخص في أي بيئة وأي مكان بحاجة لمن يعاضده ويجعله سنداً له في المهمات ومرشداً له وناصحاً يصدق النصيحة، حيث أن المرء مرآة أخيه التي يرى كل منهما حقيقته فيها من خلال صدق الواحد تجاه الآخر وتصحيح أخطاؤه، وهنا يشير الإمام زين العابدين في مثل هذه العلاقة إلى ضرورة " أن تلزم نفسك نصحه ومساندته لتكون عضداً له ومعيناً على فعل الطاعات".
فمتى ما استطعنا أن نبني صداقاتنا على تبادل الحقوق والواجبات، تمكنا من ادخار أصدقاء صادقين يكون قلب الواحد منهم وحرصه على الآخر كما لنفسه، وظهراً يؤازره في الشدائد.