حوارهم وحوارنا
أنا من دعاة الانفتاح والحوار مع الآخر دون أي تحفظ، وأنا أيضا من دعاة نشر الوعي وحرية التعبير في كل مكان، بل إني أشجع كل ذي رأي أن يصدح بهذا الرأي في العلن، فهذا حقه الطبيعي الذي كفلته له كل الشرائع السماوية والوضعية، ولكن أيها القارئ الكريم، إذا وجدت ما ستقرؤه أدناه والذي يمثل رأيي يخالف وجهة نظرك في القضية التي سأتناولها، فاعلم أنك من قاصري الفهم، ولست من أرباب السياسة مثلي، وأنت ممن لم يفهم رسالات الأنبياء والرسل، وإن أصريت على رأيك، فأنت مثير للشفقة وللسخرية في آن واحد، وأنت ممن لا ناقة لهم ولا جمل في الشأن العام، بل أنت لا تفهم أن الطبقة المتصدية للشأن العام لم تأت من فراغ أو صدفة، بل أتت من تجارب من معترك الحياة السياسية، وأنت ممن لم ولن يفهم معنى المداراة السياسية، أما إذا كنت تميل لعرض العضلات العلمية، أو تؤيد من يفعل ذلك، فعليك أن تفهم يرحمك الله أنك لا ترقى لفهم اللعبة السياسية، وقد أعود إذا اضطرني عقلك السمين إلى الحديث عن السادية الفئوية التي تعاني منها.
كل ما ورد أعلاه مأخوذ من تعبيرات كتاب نحترمهم ونحترم آرائهم، والمهم هنا مناقشة طرح هذه المجموعة من الكتاب والمثقفين في الساحة، وخصوصا بعد زوبعة التكريم وزوبعة محاضرة البريك، وكل كاتب أو مفكر يجب احترامه واحترام نتاجه الفكري، وهذا لا يعني بالضرورة التطابق معه، أو معارضة كل ما يطرحه، وحدود هذا الاحترام يحددها احترام هذا الكاتب أو ذاك المفكر للرأي العام. وأما التجريح الشخصي الذي وقع على كاتب أو عالم دين، أيا كان هذا الكاتب أو العالم، فهو مرفوض تماما، فيجب على أي ناقد نقد الفكرة المطروحة لا صاحبها، إذ لا يضطلع على النيات إلا الله عز وجل، فقد أتوافق معك في رأي وأختلف معك في آخر، وقد قيل " اعرف الحق، تعرف أهله" وليس العكس. ويجب على كل ناشط في الساحة أن يعلم أن الناس لم تعد كما كانت قبل ثلاثين سنة، فالرأي العام بدأ يعي تماما لتحليل مجريات الساحة، وهو الذي يرسم النفس أو التوجه العام للناس، لا رأي النخبة، وإن كان أي تيار في الساحة يتكلم باسم الجميع، فعليه أن يستمع وينصت للجميع، وتكون جهوده تتناسب مع التوجه العام للناس، أو أن يتوقف هذا التيار عن الحديث باسم الناس، وأن يتحدث باسمه هو فقط.
يقول أحدهم أنه من السذاجة المطالبة بالحوار مع المعتدلين من التيار السلفي، والقطيعة مع المتشددين. وأقول له سامحه الله على هذا الوصف أن هذا ليس سذاجة، أو جهل، ودعنا نتأمل جيدا. فلو نظرتم إلى العالم الإسلامي والعربي كاملاً، وتأملتم تاريخ الحركة السلفية الأصولية منذ عهد ابن تيمية إلى عصرنا الحاضر، ستجدون أنه ما من أحد، سواء كان تيارا دينيا أو فكريا أو سياسياً قد نجح في الحوار مع أي تيار سلفي تقليدي، والحوار الذي أقامه الشيخ حسن الصفار بحسن ظن مع التيار السلفي التقليدي هو أكبر دليل، فلو راجعت الأسئلة والاتهامات التي طرحها وما زال يطرحها هذا التيار هي هي نفسها لم تتغير، فيبدأ الحوار بالهجوم والاتهام باجترار أسئلة أزلية، وكل مرة يسمعون نفس الإجابات، ويعاد طرحها مرة أخرى، وهكذا دواليك، فأصبحنا كأننا نستجدي المواطنة منهم، ولم تثن كل أجوبة الشيخ الصفار أو من حاورهم قبله أو بعده، وكل تصريحات المراجع الشيعية المعتبرة، لم تثن البريك مثلا من التعرض لبعض عقائد الشيعة بالتهكم خلال محاضرته في القطيف!! فأي استفزاز وسخرية أكبر من هذا؟ وإن قلتم أن الحوار يجب أن يدور حول التعايش، فلماذا يحول الحوار إلى حوار عقدي أصولي، ومن ثم يتهم البعض أنه يريد تحويل أي حوار إلى حوار عقدي!!! وبالمقابل هناك علماء وشرعيين من التيار السلفي يحملون أفكارا قابلة للمزاوجة بينها وبين المواطنة والتعايش، ولم يقم معهم أي لقاء أو حوار، فحصر الحوار بهؤلاء - أي المتشددين - يعطيهم مساحة أكبر من حجمهم الطبيعي، وفي ظل توجه الدولة لإقصائهم لوقوفهم حجر عثرة في كل مشروع إصلاحي، نجد أن الحوار معهم ليس غلا محاولة لإعادة اختراع العجلة!! وأما الحديث عن تأثير هؤلاء على الشارع السعودي، فهو وهم كبير، وإن كان لهم تأثير، فهو لا يتعدى مجموعات صغيرة ليست ذات تأثير على الساحة ككل. يقال قديما أن تجربة المجرب ليست من الحكمة، وأسأل هنا، لماذا الإصرار على الحوار مع هؤلاء مع علمنا المسبق أنه لم تكن هناك تجربة واحدة تدعو للتفاؤل في الحوار معهم؟
يدعي البعض أنه يحمل المشروع السياسي الوحيد في الساحة، وأن خبرته السياسية خلال العقود الثلاثة المنصرمة تؤهله لممارسة الحديث باسم الشيعة وحقوقهم. جزء من هذا الإدعاء صحيح، وهو أن هذا التيار هو أكثر تيار منظم وذو خبرة في الممارسة السياسية، ولكن من حقنا نحن أن نسال عن ما أنجزوه خلال هذه الأعوام الثلاثين؟ فقد امضوا ما يقارب الخمسة عشر سنة في المعارضة، والتي كانت نتيجة لصدامات عنيفة ودموية فيما يعرف بسنة الأحداث، وأنا هنا لا أنفي معاناتهم وتضحياتهم، ولكننا هنا نتحدث عن مجتمع، وليس عن أفراد. إن المجتمع يعاني من قضايا كبيرة، فالسجناء المنسيين، والتمييز الطائفي هما القضيتين الرئيستين، ولم نجد أي تقدم في هذين المسارين ألبته. وهذا النقد لا نحصره بهذا التيار، فليس هناك أي إنجاز حقوقي قام بتحقيقه أيا من التيارات العاملة في الساحة، ولكن ما يجعلنا نوجه هذا اللوم لهذا التيار، أن هذا التيار قد وضع نفسه كخط دفاع عن المجتمع، وقد واجه لوم المجتمع له بشكل قاس وعنيف، بل باستخفاف عقول الناس وتفكيرهم.
يعتبر هذا التيار أن الحوار ليس خيار يوصل للمنشود، بل يعتبره الطريق الوحيد للوصول "للتعايش السلمي" - وهذا يفترض أننا نعيش حرب - والمواطنة. ولو أخذنا مبدأهم هذا، وحاولنا تطبيقه عليهم أولاً، لرأينا العجب العجاب. ففي حين يصرون على الحوار مع التيار السلفي المتشدد وليكن ما يكون، نجدهم يستنفرون كل طاقاتهم الإعلامية والكتابية لمهاجمة المختلفين معهم بشكل لا يليق لا بهم ولا بالمجتمع. وإن كان تبريرهم أن هناك بعض المواقع قامت بالهجوم على شخصيات بعينها بإسفاف، فإننا نقول أن هذه المجاراة ستؤدي بكم وبهم إلى الانحدار لأدنى المستويات، ونحن لا نريد ذلك لا لهم ولا لكم. إن التيارات الشيعية الأخرى أولى بالحوار واللقاء والتفاهم من غيرهم، فهؤلاء هم أهلكم وإخوانكم، وإن اختلفتم معهم أو اختلفوا معكم. فلو تحاورتم معهم، وتقبلتموهم كما هم، كما تقبلكم المجتمع بعد عودتكم كما انتم، لكونتم جبهة واحدة، لا يستطيع أحد اختراقها لا بتكريم، ولا بمحاضرات، وأما الإصرار على التعنت تجاه الداخل الشيعي سيفقدكم قواعدكم الشعبية على المدى الطويل، حتى لو خيل للبعض أنه حقق انتصارات، فهي آنية، وسيتضح في المستقبل القريب أنها مجرد سراب يحسبه الظمآن ماء.
إن ما يدعوا للأسف، أن يواجه النقد الفكري لأي توجه بالهجوم الشخصي على المنتقد، فبدلا من مناقشة الفكرة التي يتم طرحها، يوظف المنتَقد سهامه وهجومه على شخص المنتَقِد. إن وصف مناضلي الفنادق ينطبق حتى على من عاد من المعارضة، فقبل العودة كانوا كلهم لاجئين سياسيين، فـ "شوعدا مابدا" كما يقال في لبنان. أول من استخدم هذا اللفظ استخدم في تونس والمغرب من قبل حكوماتهم تجاه معارضيهم في فرنسا، وذلك لتشويه صورة أي معارض إعلامياً، أي أنها "بروبجندا" لا أكثر ولا أقل، إذ أن معظم هؤلاء المعارضين يكدحون ليل نهار لتوفير لقمة عيشهم، قد نختلف معهم، وقد نرفض أفكارهم، ولكن أن ننحدر في خطابنا إلى هذا الحد، فهو أمر مرفوض، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على تخبطنا وضياع خطابنا.
بلا شك أن الدولة بأجهزتها الرسمية وسعت دائرة انفتاحها على الداخل بكل تياراته الفكرية والمذهبية، وحتى لو كان هذا الانفتاح ليس بالمستوى المأمول بعد، ولكنه موجود، واستثماره للصالح العام هو الخيار الأنجع، فالحرية لا تعطى، ولكن تنتزع، وإن تعددت أساليب الانتزاع، فإن الوضع الراهن هو البداية لبدء حوار صريح وشفاف مع الدولة مباشرة، بدلا من تضييع الوقت أو ثلاثين سنة أخرى في حوارات غير مجدية. فليس للدولة إلا الناس، وليس للناس إلا الدولة، ومهما ابتعد كل طرف عن الآخر، فإن مصيرهم واحد، ومصلحتهم واحدة.