مكاشفات منهجية في الوحدة الإسلامية
لا يكاد يخفى على المتأمل في المشهد السعودي الخطوات الجادة في تأصيل ثقافة التعايش السلمي بين مختلف أطياف الوطن الكبير ، وهو الباعث في نفس المواطن الطمأنينة والأمان ، والذي يبشر بمستقبل واعد للجميع .
ولأجل تحقق هذا النمط من المعيشة في ضمن إختلافات وتناقضات عقدية ، وتوجهات ومفارقات فكرية ، لا بد من قراءة صادقة وشفافة لواقع مجتمعنا ، حتى يتسنى لنا رسم منهجية كفيلة بتحقق الأمن والاستقرار ، ومن ثم ننسج التعايش على ضوء تلك الرؤية ، ولعل بعض الرؤى التي ترمي إلى التعايش لا تؤتي أكلها ، لما فيها من ثغرات منهجية .
ونزولاً إلى المصاديق ، نقف مع برنامج ( البيان التالي ) والذي أطل علينا قبل عدة شهور ، في حلقته ( الوطن للجميع ) ، واحتضن رمزين من رموز الدعوة إلى التعايش ، هما: سماحة الشيخ حسن الصفار وفضيلة الشيخ سعد البريك ، وتفاعلت معه بعض المواقع الإلكترونية بقراءة سطحية ، وقد دوّنت هذه المكاشفات حينها ، إلا أني لم أنشرها ، وما إن انطوت الأيام القلائل حتى أكدت ذلك ، فلا زلنا نعيش صدى الأحداث الأخيرة التي خلفتها زيارة الشيخ البريك للقطيف .
- تكشفت بعض مواطن الضعف المنهجي في هذا اللقاء القصير ، والتي قد تشكل عراقيل تحول بين تحقق التعايش السلمي على نطاق واسع ، ولعل انزلاق فضيلة الشيخ البريك والدكتور محمد السعيدي - في مداخلته الهاتفية - إلى معترك المناظرات العقدية بعد ما أفصح الشيخ البريك في بدء الحلقة بعدم الولوج في متاهاتها ، هي تلك المنهجية التي يعلوها شيء من الضبابية وعدم المصارحة خصوصاً في مسائل المعتقد ، أو قد تكون - المنهجية - غير ناظرة لرؤى وأفكار الأطياف الأخرى المشاركة في الوطن ، والتي تبرز تفاصيلها في الممارسة الحياتية والأنشطة المعيشية ، وكما يقول المثل الشهير الذي إستحضرته ذاكرة المقدم الصحفي عبد العزيز قاسم: ( الشيطان يكمن في التفاصيل ) ، ولعل هذا الخلل دفع مقدم البرنامج إلى التساؤل: ( لماذا لم يترجم هذا في واقعنا بالساحة الشرعية ؟! ) .. ولهذا لا مناص من وضع الإصبع على نقاط الحرج لدى الطرفين ، كما كان في الولاء للخارج بالنسبة للشيعة ، والذي كُشف الستار من حوله في واقع الطائفة ، بأن إرتباطهم بالخارج هو بعيد عن نعرات السياسة ، وإنما هي علاقة دينية يُستمد منها الآراء الفقهية والعلمية من منبع المرجعية الدينية ، فكان ينبغي الاتفاق من حين بدء الحوار على منهجية معينة ، تستثني مسائل معينة كمسألة الامامة وتحريف القرآن ، ويتناول مسائل معينة كمسألة التكفير وتناول الرموز من الطائفتين حيث يبدو ان كل طرف سلك منهجاً مغايراً للآخر ، وهذا ما جعل الحوار عقيماً .
- تكشف أن الشفافية في الطرح لم تمتد لتشمل باقي القضايا بلحاظ واقع الإختلاف العقدي والفكري في المجتمع ، لينظّر للتعايش على وفق الواقع ، فهناك مسائل لا زالت عالقة على طاولة الحوار ، وقد ينظر لها البعض بأنها من معوقات حركة التعايش ، وهي قضايا لطالما شغلت ذهن المواطن ، ولم تغب هذه الملاحظة في مداخلة الشيخ السعيدي الهاتفية ، والذي صرح بقوله : ( وما ذكره الشيخ الصفار قبل قليل من أن جماهير الشيعة لا يكفرون الصحابة ، وأن تكفير الصحابة رأي قليل من علمائهم ، هذا قول من الشيخ لا يصب في جنبة المصارحة ، لأن المعلوم أن الأصل عند الإثني عشرية هو تكفير الصحابة ... ) ، وأخذ يسرد الشيخ عدة نماذج من كلمات علماء الشيعة من المتقدمين والمتأخرين ، فكان ينبغي الا عتراف من قبل الطرفين أن الطعن في بعض الصحابة أمر مشترك بين الطرفين ، فجمهور السنة قائل بكفر أبي طالب وهو من أوائل الصحابة عند الامامية ، وجمهور الشيعة يرى الطعن في كل من خرج على الإمام علي وحاربه ، فالتهرب من ذكر هذه الأمور لا يخدم الحوار وهدفيته .
- تكشف أن مسألة التكفير الطائفي على طاولة حوار التعايش لا تخلو من الضبابية ، وإنما هو إخفاق في محاولة الهروب ، بإثبات التكفير من كل طرف ، بأنه بين دفتي تراث الآخر ومتبنّى بعض علمائه ، كما هو لا يخفى في كلمات دعاة التعايش ، من دون الوقوف على حقيقة المسألة في كونها عقبة تعايش أو لا ؟! .. فإذا كان التكفير على معنين : أحدهما الخروج عن الدين ، والآخر ليس كذلك ، وإنما هو بمعنى الضلال عن الحق وله أثر اُخروي في عدم قبول الأعمال ، فما الضير إذاً ؟!! ، إذا كان ما يبحث عنه هو التعايش لا التقارب كما صرح به الشيخ البريك حيث قال: ( إذا أردنا أن نتحدث عن التقارب فليكن الخلاف فيما هو دون الثوابت والأصول ) ، وقال كذلك: ( كيف يمكن أن نقول بالتقارب وفي مصباح الفقاهة يجوز لعن المخالفين وهو لأبي قاسم الخوئي وتجب البراءة منهم وإكثار السب عليهم واتهامهم والوقيعة فيهم لأنهم أهل الريب والبدع ) ، وعلى هذا فالتقارب بعيد المنال ودونه خرط القتاد ، كيف وفي ثوابت أهل السنة خلافة الثلاثة من الصحابة ، ومن أصول الشيعة الإمامة ؟!! .. ، ولهذا فقد صرح نفسه الشيخ البريك باستحالة التقارب حينما قال : ( لو أن ذلك الوقت والجهد والمال والمؤتمرات التي ضاعت في محاولة إستنتاج العدم إلى إستثمار الموجود ، وهو التعايش لحققنا خيراً كثيراً . وأنا أقول لك على سبيل المثال ، كيف تريدني أن أقول بالتقارب وأنا أعيش مغالطات في مصادر فيمن قال بأنه لا يقول بها فأقول صدقت ) .
ومع ما ينساق معه البحث وهو التعايش ، كان من المفترض ملاحظة المناهج الأخرى في رؤيتها الجريئة بضلال بعض الطوائف ، لكنه لا يستتبع أثراً معيشياً ، فلا ضير في مثل هذا على مستوى التعايش ، خصوصاً إذا كانت بعض الطوائف الإسلامية مع نظرتها للآخر بالكفر بمعنى الضلال ، إلا أنها تعتبر أن له أحكام المسلمين على مستوى التعاطي المعيشي ، إذاً فلا يتنافى هذا المعنى من التكفير مع مطلب التعايش المشترك ، وهو واقعنا فنحن مجتمع خليط من الأفكار والمناهج والتيارات ، فمن المفترض طرح ما يتعايش المجتمع عليه ، ويلحظ واقع الاختلاف الاجتماعي الشيعي السني ، والشيعي الشيعي ، والسني السني ، وكان الشيخ البريك منصفاً حينما نظّر للتعايش بالوحدة الأروبية التي تتفق على وحدة العيش مع إختلاف المعتقد ، وطالب بالمجاورة الحسنة والاشتراك على مقاعد الدراسة والعمل ، وفي كل ما نتصوره في مواقع اختلاط بعضنا ببعض مع بقاء كل على ملته إن لم يشرح صدر أحدنا إلى الحق - على حد تعبيره - .
- تكشف من قول الشيخ البريك: ( ترى التكفير عند أهل السنة هو التكفير المعين ، حينما أقول فلان كافر هذا يستلزم أن يكون عالماً بلا جهل ، مختاراً بلا إكراه قاصداً بلا تأويل ، ولذلك مسألة الإعذار بالجهل مسألة مهمة وإطلاق الحكم على عوام الشيعة ، أنا أعتبر هذا فيه من الظلم لشيء الكثير ) ، لازم هذا الكلام أن التكفير يكون لما يقابل عوام الشيعة ، وهم المراجع والعلماء والمثقفين ، وهم الذين يتواجد بعضهم في الوطن ، ولعل هذا يشمل أيضاً من يشاركه على طاولة واحدة ، والذي أكثر في حقه الإطراء والمجاملة ، حيث أنه محسوب من رجال الدين والحوزة .
- تكشف أن حكم التكفير لم يكن بعيداً عن لغة سماحة الشيخ الصفار ، والذي نقله المقدم عبد العزيز قاسم من تصريحات الشيخ حسن في موقع " المعترك" ، حيث قال: ( أن من كفر الصحابة متأولاً أو جاهلاً بعد أن يناقش وتوضح له الشبهة وأصر على موقفه ، خرج من الملة ) ، وتبعت هذه الكلمة تكبير الشيخ البريك الذي استشعر النصر ، فهتف ( الله اكبر وجزاك الله خيرا ) ، وأكد على ذلك النقل سماحة الشيخ حسن بدعوى: ( إنما أغلب ومعظم علماء الشيعة ومفكري الشيعة هذا هو رأيهم ، وإذا كان من يقول خلاف ذلك فهي آراء شاذة ) ، مع أنه لم نجد في المصادر الحوزوية أن هناك قولاً جمعياً من الفقهاء في هذا المجال .
- تكشف مدى عمق الإضطهاد الشيعي في المنطقة ، فلم يكن فقط من الجهات المسؤولة ، بل حتى من قبل دعاة التعايش عندما لم يعترفوا بالنقص الكبير في حقوق المواطنة الشيعية ، فالشيخ البريك الذي أفصح في بدء حديثه عن ( أن أخواننا الشيعة في هذا الوطن هم مثلنا لهم مالنا وعليهم ما علينا ) ، أرجع ما يشتكي منه الشيعة من اضطهاد ، إلى عامل نفسي تعيشه الشيعة ، وهي حالة شعورية تولدت من إقامة المآتم والبكاء على أهل البيت ، وهذا كلام لا يخلو من السخف ، فكيف لمثل الشيخ وهو على منصة التعايش والاقرار بحقوق المواطنة ، أن يؤول ما تستشعره الطائفة من اضطهاد وتمييز إلى عامل نفسي ، وكأنه يريد أن يخلي ساحة المسؤولين عن ذلك ، فكم هي الحسينيات والمساجد التي أُحيطت بالشريط اللاصق . وهكذا الحال عند الشيخ عوض القرني - في مداخلته الهاتفية – والذي ابتدأ حديثه بقوله: ( ابتداءً أقول المظالم الحياتية أو التقصير في أداء الحقوق ، أو في التنمية ، ليست في بلادنا ولا في البلدان الأخرى ، خاصة بطائفة دون طائفة ) ، وهذا وهو الذي إذا ذُكر دعاة التعايش عُدّ في مقدمة الركب !! . أما الشيخ السعيدي الذي أراد أن يريح نفسه بتنصله عن القضية وإرجاعها إلى جهاز الدولة ، وأن وظيفته هي كشف أهل البدع ، والذي فيه غمز لا يخفى ، بل صرح في طيات حديثه: ( أن لا تنسينا دعوات التعايش عن التوصيف العلمي للتراث الشرعي للشيعة هو كونهم مبتدعة حتى يثبتوا لنا هم عكس ذلك ) .
وكان قد عرّض السعيدي على مطالبات الشيعة إلى أنها ( ليست مطالبات مقتصره على الشيعة وحسب ، بل أن الكثير من السنة من أبناء الأطراف لا تزال لهم مثل هذه المطالبات ) ، وهكذا الشيخ البريك يقول: ( أنا لا أزال أقول إن القطيف وجدة وجيزان وطريف وعرعر والشمال ورفحة وغيرها بحاجة إلى مزيد من الخدمات ، لكن كل يظن أنه المظلوم وحده ) ، ولكن هذا الكلام إنما هو محاولة لتضييع حق الشيعة بمزج مطالبهم الحقوقية مع غيرهم ، إن مطالب بعض أهل السنة إما أنها مطلب مشترك مع كافة الشعب ، أو هي مطالب شخصية مرتبطة بأفراد ، وأما الشيعة فمطالبهم الحقوقية تمس حاجة الطائفة برمتها ، وحالة التمييز والتضييق الذي يمارس في حقهم لكونهم شيعة ، فالسني في مطالباته لا يستشعر أنه مميز .. وليس كذلك الشيعي .
- تكشف أن منهج سماحة الشيخ حسن في الدعوة إلى التقارب غير مرحب به عند الطرف المقابل ، ففي الوقت الذي أشار سماحته إلى ( أن المذاهب في الأصل في نظري هي متقاربة تختلف في بعض الفروع العقدية والفقهية ، ولكنها تنهل من منبع واحد وتدين بالأسس الإيمانية الواحدة ) ، فقد صرح الشيخ البريك في طيات حديثه وقال: ( كيف يمكن أن نقول بالتقارب وفي مصباح الفقاهة يجوز لعن المخالفين وهو لأبي قاسم الخوئي وتجب البراءة منهم وإكثار السب عليهم واتهامهم والوقيعة فيهم لأنهم أهل الريب والبدع ... في مسألة الناصبي ... في مسألة العصمة ودعوى علم الغيب ... في المتعة ... ) .
بما أننا لا زلنا في مرحلة الدعوة للتعايش وبلورتها مع ما ينسجم مع الطوائف بمختلف ألوانها وأطيافها ، فلابد أن يؤخذ بعين الاعتبار والجدية ، منهج ورؤية من هم مصدر ثقة عند كل طائفة - كالمرجعية عند الشيعة ورأي المشهور - ، وأما محاولة تخطي من تنصاع له غالبية الجماهير ، سواء على الصعيد الشعي أو السني ، فهو مما يحول بين التعايش ، ولعل بعض الدعاة للتعايش يسعى لإسقاط رؤيته وفرضها على المجتمع ، ولكنه بهذا يحدث صدعاً وجدلاً في الوسط الاجتماعي ، وعندها بدلاً من إيجاد مناخ للتعايش من قبل رجال الدعوة ، تفتح بوابة جديدة للنعرات والصراعات .
- والحمد لله ربِّ العالمين -