كرنفال " لا تثريب " !!
من منا لا يسمع أحاديث تطرب لها النفوس وتهتز لها الأرواح وتتمايل لها الأعناق إعجاباً، خصوصاً تلك التي تصب في جيوب وأرصده التسامح والتحاور ونبذ الخلاف والشقاق بين الفرقاء والمتخاصمين، ولكن السؤال الملح : لماذا لا يطبق المتشدق حروفه التي يزين بها كلامه؟!
أولسنا نحن المبدعون في ساحة التنظير والبناء اللفظي حتى الإتخام والثمالة؟!، حتى إذا جاء دور المواجهة مع الخصوم تبخرت تلك القيم والمعزوفات المثالية دون عودة، إلا في منابر رصف الكلمات وخطب التزويق المعلب..
عند التقاء الصفين تبدأ الأكمام بالانحسار ويتأهب الجميع للمبارزة ويرتفع الصراخ وتدب المعركة ولا تضع الحرب أوزارها إلا بآلاف المصائب والمصابين، والجراح عندها تكون بالغة التعمق لا يزيدها الزمن إلا ضراوة وحدة واشتعالا، فالمبررات لتلك المطحنة حاضرة على الدوام، وهناك الوثائق القاطعة والأدلة الدامغة على مشروعيتها، حتى يلجم فم أي مصلح ويخرس، وإن كان الصلح خير !
أين المشكلة وما هو مكمن ذلك الداء العضال الذي ينخر أبناء المجتمع الواحد، والأمة الواحدة؟! من يحدق النظر يرى أن المشكلة تكمن في "غدة الشخصنة " التي تنتفخ خاصة في ساعة التلامس والمقابلة؛ فلا نقبل إلا بتفجير الأوضاع عن بكرة أبيها وإن سحقت معها كل مشاريع الخير التي سهرت لها العيون وشيدت باللحم والدم والعصب، إنه بمقدورنا أن نتقمص وشاح " العفو" ونرتدي قلنسوة " الصفح " ونتدثر بعباءة " التسامح وكظم الغيظ "– وإن كنا كارهين له – إلا أن المآرب الشخصية والتحديات الصبيانية – رغم غزو اللحى بالشيب – التي لا ترتقي بمستوى الهم الأكبر للأمة والتعقل الحكيم الذي يقض مضجع الشيطان والفتنة المدوية.
أما آن للأرواح أن تكون ملائكية؟! تحلق بعيداً عن هذا النزق المسف، والتفاعل الأرعن من أجل أثبات الذات والوجود، أما لدينا حلبة غير تدمير المكتسب، وهدم الإنجاز المتطاول ؟! كل منا يعي جيداً أن في الإتحاد قوة، وفي التآزر نصر، وفي ردم الصدع يتوالد الظفر، ولكن المشكلة في العيون الضيقة التي لا تنظر إلا للفيف مصالحها ومكتسباتها الفردية التي مكيجها الشيطان في صدورنا بوساوسه، أين مصلحة الذات الجمعية؟!، أين المكسب الجماهيري وارف الظلال؟! لماذا تندلع الخلافات والتخالفات الشخصية دون أن تقف عند حد؟! لماذا أضحى الشجار العلني عادة بطولية تختال لها النفوس وتطرب؟! حتى أصبح من غير المستغرب أن يتحالف أحد الأقطاب مع العدو المشترك لإزهاق الأخ المناوئ له في التيار الداخلي، لقد ضاعت القيم دون النظر إلى أي محصلة سوى المحصلة الأنانية التي نجنيها من كل شقاق، الحرب الضروس في كل بيت من أجل حاجيات تافهة ووضيعة لا تصف بحجم طموح الكبار، فمتى تعظم في عين العظيم العظائم؟!
ها هم الكبار ينفجرون لأقل فتيل فتنة، حتى تتطاير في الهواء : الرؤوس والأرواح وكل المصالح، تغدو المكاسب أرضاً محروقة (عليَّ وعلى أعدائي) إنَّه المنطق التعسفي الهابط الذي نكتوي بناره كل مساء، إنَّه الفكر المتطرف الذي لا يبلغ سفح النبل فضلاً عن قممه التي ضاعت بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، ولا يجده إلا السعير !!
فلماذا لا يلتقي الفرقاء وأقطاب النزاع؟! لماذا لا يتسع الثغر بالابتسام والوداد؟! أين ثقافة الصلة في قبالة القطيعة؟! التي أشبعنا بها الطرفين حتى القرف؛ لكوننا لا نرى التطبيق حياً يتنفس، لقد ضاعت تلكم المعاني الكبيرة التي تعلمنا على مكارم الأخلاق ومراضي الأفعال، لقد ضاعت السنة المطهرة والسيرة العطرة للمعصومين (عليهم السلام)، فلا نرى ثقافة (وعنك أغضي) ترتع في حدائق مجالسنا وأحاديثنا في قبالة حمق المناوئ حينما يقول: (إياك أعني)، إننا أمة مدججة بالسلاح وأهون تلك الرشاشات رصاص التسقيط وتصفية شخصية الرموز قبل أشخاصها، وهذا الشهر الفضيل يفتح لنا ذراعيه مقبلاً علينا بالسرور والبركات، كما يصرح المصطفى بقوله : (إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات...) فلماذا لا نجعله كذلك؟! أم إننا أحببنا أن نجعله خلافاً لذلك عنوةً بمكرنا وخسة طبائع لم نستطع الفرار منها؟! إنَّه المرض العضال والذل الحقيقي الذي ينبغي أن نقارعه في دواخلنا قبل أن نقارع أي شيء آخر، إنها ثقافة الفرعون التي أثقلتنا وعلينا كنسها قبل أن ندعي الربوبية الصغرى إن صاغ لنا التعبير، ولو فتح المجال لكنا نخاف أن تكون الكبرى أسبق، لنحارب الفرعون المعتكف في قلوب صدورنا، لنطهرها من كل تلك الأوساخ، لنتصافى فما قيمة الدنيا التي لا تساوي "عفطة عنز" أو " ورقة في فم جرادة تقضمها " ؟!، أولم يفعلها طبيب الإنسانية إذ سرح أعداءه من فراعنة قريش أجمل تسريح، فقال : (أذهبوا فأنتم الطلقاء)؛ فلنجعل من شهر رمضان كرنفالاً تصدح فيه نغمة (لا تثريب)، فالصّدّيق يوسف قالها، والحبيب المصطفى أعلنها، فمتى يحين علينا الدور؟!