الهيئة عندما تنتهك إنسانيتنا!
لا يمكن أن نختلف، من حيث المبدأ، على أهمية ضبط الأمن ، فهو ضرورة مطلقة يفرضها الواقع والعقل، لكننا قد نختلف على الآليات المتبعة في حفظ الأمن، وخصوصا إذا كانت سببا من أسباب اضطراب الأمن وزعزعته، فضلا عن كونها سببا مباشرا في امتهان وانتهاك كرامة الإنسان وحقوقه!
ثمة نزوع متفاقم في ذهنية "رجال الحسبة " لتصنيف الناس تحت دعاوى الإرشاد والتوجيه، فرجل الحسبة يصنفك من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال عند أتفه الأسباب ولو كنت على سبيل المثال تمارس سلوكا لا يثير هواجس "الشيطان"نفسه، كنحو ممارستك رياضة المشي على الشاطئ مع زوجتك ، فله رجل الهيئة هنا، أن يستوقفك، ويزدريك بنظرات الشك والريبة ،ويتفقد زوجتك بنظراته الدبقة، ثم يفاجئك بسؤال فج :من هي "الحرمة" التي معك؟؟
وقد يفتشك ويطلب بطاقة الهوية وورقة تثبت زواجك من "الحرمة" التي معك، ممتهنا كرامتك أمام زوجك وعلى منظر من مرتادي الشاطئ وكأنه في حضرة لص ..!
وإذا تيقن من شرعية" الخلوة" فلا تنتظر منه اعتذارا، بل أنت مطالب بالاعتذار لإبداء امتعاضك من هواجسه المريضة ومن حقه الطبيعي في ممارسة عمله "الشرعي" الذي يقتضي بالضرورة الكشف عن منابت السوء والعفن!
وعندما يُقبض على شاب وفتاة في حالة "شبهة".. رجل الهيئة هنا لا يرى سوى "الإثم"، "الخطيئة"، "الفعل الشائن"، ولا يعبأ بحقيقة الدوافع التي دفعت بشاب وفتاة لاختطاف زمن في ظلال العتمة كـلصين ..هربا من واقع متشعب بالاحباط ومتخم بالقيود ،هربا من واقع جردهما من طموحاتهما واستأصل أحلامهما البكر من جذورها ، هربا من واقع كرس حالة الخيبات ، وتبدو في أفقه المصائر ضبابية .
لكن رجل الهيئة ينسى الدافع ، يتجاهل المحفز، لا يرى أمامه إلا فعلا منكرا يجب محاربته ، ومحاربة المنكر هي حقيقته ، ودافعه ، فهو مؤمن إيمان مطلق، بأن المجتمع لن يجد خلاصه، ولن يتطهر من نجاساته ، إلا بوجود رجال أمثاله"يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" ولو تطلب ذلك الإكراه والقسر.
رجال الهيئة يجهلون تماما المآسي الوجدانية التي تنهش أعماق الشباب ، ولا يعلمون مدى الخواء الذي يجوفهم ، ولا يفهمون سر الحرائق الروحية التي تشتعل في أجسادهم بفعل الكبت ونكوص الإشباع ، و لا يفقهون أن تداعيات البطالة وتأخر سن الزواج وعدم وجود بدائل أخرى، قد يفضي كل ذلك إلى اليأس من الحياة برمتها،هذا فضلا عن أن الاستبداد والقسر والإكراه أراض خصبة لإنبات التمرد في أبشع صوره !!
إن قسر الإنسان على ممارسة فعل ما، تحت أي ذريعة، هو تجريد من كينونته وسلخ لإنسانيته وسحق لكرامته وتكريس لحالة العبودية في أقبح صورها . ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [1] .
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾[2]
المتدينون القشوريون ورجال الهيئة لا يخطر في بالهم أن سلوكهم الفظ وغلظة قلوبهم وملامحهم المتجهمة وتهافتهم على "زيف الدنيا ومتاعها الخداع" وتناقضهم الفاضح بين القول والفعل سبب من أسباب نفور الشباب من التدين وتمظهراته .وليتهم تحضروا خارج المحراب قبل أن يتحضروا داخله!
﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ ﴾[3] .
التدين تواضع ..تأمل، سلوك حسن .لا تسافل . التدين حالة روحية سامقة ،عدل ،محبة، تسامح ، لا مظاهر قشورية جوفاء .
وكما يقول ابن عربي :" أدين بدين الحب أنّى توجّهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني"
رجال الهيئة لا يخطر في بالهم أيضا، أنهم يحجبون أعراض المرض لا جذوره الضاربة في العمق.
إذا قسرت إنسانا بسلطتك على تكلف الفضيلة، فأنتَ تهزم حريته وتسبي كرامته ، ولا قيمة لـ"فضيلة" مستعارة"!
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرّ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾[4] .
لكن الفضيلة هنا تحتكر، تؤطر، وتحول إلى ملك خاص ،ومن ثم تستثمر..! و محتكر الفضيلة سجّان .
تنحصر مهماته في الحيلولة دون اختراق سجن الفضيلة المنيع من شياطين الرذائل !
وكما يقول القصيمي " إن الفضيلة هي أن يتوافق الإنسان مع الطبيعة – لا أن يتجنبها أو يخافها أو يعجز عنها أو يحرِّمها أو يعبدها..."الفضيلة قدرة، لا فكرة"
1- أليست ممارسات الهيئة المتعسفة المتمثلة في قسر الناس على ممارسة سلوك معين يعد ذلك خرقا فاضحا لحقوق الإنسان من جهة وإساءة صارخة للدين من جهة أخرى؟
2- لماذا الشعب السعودي دون بقية شعوب الأرض في حاجة ماسة ومستمرة لمن يرشد له سلوكه بسلطة دينية متعسفة ؟
3- ألا يحق لنا الخوف من أن ينشأ جيل يمارس الفضيلة تكلفا ورياء حفاظا على أمنه النفسي والاجتماعي؟
4- ألا يحق لنا القول إن المؤيدين للرقابة والوصاية على الثقافة والفكر والنوايا هم بطريقة ضمنية يكرسون مفهوم أن الشعب قاصر ولذلك هو في حاجة ماسة ومستمرة لمن يرشد له سلوكه ويروضه ويدجنه على نوع معين من السلوك الآلي دون أن يكون له دور أو رأي في رفض أو قبول ما يفرض عليه ، فإرادته هنا ليست لها قيمة لأنها تقف إزاء إرادة السماء!! وكم هي من تجارة وفيرة الربح ،أعني المتاجرة بإرادة السماء واحتكارها.. وطوبى للمحتكرين !
5- ألا يحق لنا أن نتساءل في ظل هذه الانسدادات الفولاذية في واقع سوداوي يقتات صباح مساء على موائد الوصاية،..أي قيمة للإنسان دون حريته وإرادته؟!