الكلمة الطيبة: بين منطق القوة وقوة المنطق «3»
إن ظاهرة الحوار والتخاطب العنيف والحاد والجارح، لا يقتصر مجالها في ما يحدث في النطاق والمجال الفردي المحدود، أو ما يحيط به من دائرة أو دوائر صغيرة، بل يمكن توسيع نطاق وقطر هذه الظاهرة لتشمل الفضاء العام، وفضاء العلاقات بين التكوينات والمكونات البشرية والإنسانية على المستوى الكوني العام. فالصراعات والخلافات والنزاعات الجارية والقائمة على أساس هذه الظاهرة، لم تعرف الهدوء يوما ما، بل تزيدها الكلمات العنيفة والجارحة استعاراً والتهاباً، حيث يذهب ضحيتها الكثير من البشر في شتى أنحاء المعمورة، عندما يتراشق ويتبادل فيها الجميع، الكلمات والألفاظ النابية والمهينة والجارحة والمحقرة لبعض. فكلٌ يرمي غيره بالهرطقة والكفر والضلال والانحراف، ويهدده بالويل والثبور وعظائم الأمور، لتُختم قائمة هذه الكلمات الجارحة، بالدعاء على الخصم بالهلاك والدمار وتيتيم الأطفال وترميل النساء، ظناً أنهم بذلك يؤدّون خدمة وواجباً دينيا، يدافعون به عن عقيدتهم ويحمون أتابعهم من تأثير الغير عليهم.
انه لمن المؤسف أن يستسهل البعض رمي من يختلف معه بالنفاق والبدعة والضلال والفسق والفجور، وربما الكفر والخروج على الدين ومنه، في كرنفال متنوع من العنف اللغوي والكلامي واللساني، لا ينتهي عند حد وحدود، إنما يزداد اتساعاً مع الزمن، حيث لم يكن هذا العنف المستفحل، أمراً طارئا أو وليد اللحظة واليوم، بل هو ظاهرة ذات جذور ممتدة في عمق التاريخ، عندما "كانت العلاقات بين أتباع الأديان المختلفة منذ الأزل متوترة، وصلت في كثير من الأحيان إلى إراقة الدماء أنهاراً، فإن سكنت قرقعة السلاح بين الحين والآخر، فإن التراشق بالكلمات ظل متواصلاً، لا يعرف الهدوء، ولا يقر التوقف لسماع الآخر، فالجدل الديني ظل سيد الموقف بين المتدينين، ورمي الآخر بالهرطقة والكفر أصبح أسلوباً من أساليب التدين، ومظهراً من مظاهر التقوى والصلاح، وتفنيد وظلال الآخر وانحرافه نغمة محببة عند دعاة كل دين، والدعاء على الآخر بالهلاك والدمار وتيتيم الأطفال، وترميل النساء... و.. و.. الخ سنّة إن لم تكن واجباً من سنن التقرب إلى المعبود، وإجبار الآخر على اعتناق عقيدته التي ارتضاها ديناً من أكبر الواجبات الدينية، إن لم يكن أكبرها، يضحي في سبيلها المتدين بكل ما يملك.. حتى نفسه، يقدمها قرباناً لمعبودة، حتى ينال رضاه، ويحصل على ثوابه"[1] .
إذا ما أثيرت الحساسيات الضيقة بين المكونات الاجتماعية نتيجة هذا التراشق الكلامي الجارح، فإن ذلك بالتأكيد يؤدي إلى إعاقة حركة الحوار الهادف إلى بناء السلام الاجتماعي والسلم الأهلي في أي مجتمع، حيث لا زالت بعض المجتمعات تعيد إنتاج الكثير من المفردات التي لا تنسجم مع أصول العقيدة ومقاصد الشريعة وأدبيات وتعاليم الدين، ولا تأخذ بعين الاعتبار أولويات المرحلة، وما تعيشه الأمة من أخطار تتهدد كيانها الوجودي، وهو ما يفرض خطاباً يؤكد على الثوابت وعناصر اللقاء، بعيداً عن أساليب الشحن والتجييش والتهويل والانفعال.
إنّ خروج الخطاب عن الأسلوب الإسلامي في أدبيّاته وأولويّاته، كما يقول السيد فضل الله، "والانسياق وراء النعوت الحاملة لمعاني التّكفير والتّفسيق والسبّ والشتم، لا يمثّل إساءة إلى من يتحرّكون في خطّها فحسب، بل إلى الواقع الإسلامي العام الذي يتطلع إلى النموذج والقدوة في الوسط العلمائي الديني، فيصطدم بالواقع المر، الأمر الذي قد يدفعه إلى الخروج عن جادة الصواب، أو تقليد هؤلاء، أو فقدان الثقة بالواقع كلّه"[2] .
إن هذا الواقع الإسلامي المرير، لا يحتاج إلى مزيد من الشقاق والفرقة والعداوات والمعارك التي تبدد الطاقات وتشتتها، لأن هذا الواقع المزري، مثقل ومنهك بما يكفي من المشكلات، وليس من المصلحة تدمير ما سَلِم من ثروات هذا الواقع، بمزيد من الفتن المدمرة والمهلكة، وسيكون وقف المهاترات الكلامية، والقصف اللغوية المتبادل، عوناً على تعبيد الطريق نحو خلق بيئة مناسبة للتلاقي والتواصل، وكفيل بإتاحة فرص جادة للحوار المثمر، والجدل بالتي هي أحسن، من اجل إصلاح النفوس، والمساهمة في إصلاح ذات البين.
وفي ظل هذا الواقع الصعب الذي تعيشه الأمة، يتساءل عائض القرني "لماذا لا يكون الحوار والتواصل والجدل بالتي هي أحسن والتعارف مكان التكفير والتبديع والتضليل والتفسيق"، ثم يضيف قائلا "لقد شكونا وبكينا وتظلّمنا واعترضنا على سب أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله رضي عنهم وزكاهم وأثنى عليهم، فهل نأتي لنأخذ السب سلما والشتم طريقا والقذف منهجا لنصلح ما أفسده الدهر، والله إن مَنْ أراد الانتقام بالسب والشتم من إحدى الطائفتين أو غيرهما من طوائف الإسلام لا حقا نصروا، ولا باطلا كسروا، ولمصلحة من يُنشر الخلاف والسب والشتم والتجريح في الفضائيات ومواقع الإنترنت؟ وكل مَنْ كتب سطرا واحدا أو قال كلمة واحدة فيها تكفير وتبديع وتضليل إنما صب الزيت على النار وأضاف عود حطب إلى فرن العداوة، وعجبي من أتباع الطائفتين كيف يتحمّسون للخصومة والعداوة ويزرعون الكراهية في القلوب ويغرسون البغضاء في النفوس، لقد مرت بنا مئات الأعوام من السب والشتائم، فهل أصلحنا بذلك فساد ذات البين؟ وهل أنهينا بهذا المسلك الخلاف؟ وهل داوينا الجراح؟"[3]
الاختلاف والتنوع في أي امة، وفي أي مجتمع، هو أمر طبيعي وسنه من سنن الحياة، لكن مشكلة بعض الناس أنهم لا يقرّون بذلك، ولا يسلمون بهذه الحقيقة أو يقبلون بها، بل يصرون على أن غيرهم من المختلفين والمنافسين، وبسبب تبنيهم لأفكار ومعتقدات لا يتفقون معها، خارجيون ومارقون ومنحرفون عن الملة، فيستعملون ضدهم لغة التهديد والوعيد، وأساليب لغوية عنيفة وشرسة، من أجل ثنيهم عن التمسك بآرائهم ومعتقداتهم.
إن هؤلاء الناس يصعب عليهم التعايش مع أي فكر آخر مختلف، اعتقاداً أنه يمثل تهديداً لفكرهم، فهم لم يتعودوا البقاء في بيئة متعددة الأطياف، حيث هم لا يمتلكون المقومات التي تؤهلهم منافسة الآخرين، فيمارسون على غيرهم الإقصاء والتهميش، انطلاقاً من وهم امتلاكهم الحقيقة المطلقة، وذلك على حساب لغة الحوار، والقول الحسن، والكلمة الطيبة، وتعدد الآراء، والقبول بالآخر.
ليس من اللائق رمي التهم جزافا ضد الآخرين، كما انه ليس من العقل ولا من الحكمة ولا من المنطق استعداء الناس بعضهم على بعض، كما انه ليس من الأخلاق والضمير والإيمان والورع تحريض الناس على التراشق بالكلمات القذرة، وإشعال نار الفتن والخصومات والنزاعات بينهم، ووصف الخصوم والمنافسين بأقذع الألفاظ، وقذفهم بالمقزز من الأقوال البذيئة والفاحشة والشنيعة، بإسم امتلاك الحقيقة، أو بإسم حرية الرأي والتعبير وممارسة النقد، وإنما يجب حسن الظن بالآخرين، حتى وان خالفوا آرائنا وما نعتقد، وحملهم على سبعين محمل، ما دامت الآراء المختلف حولها، قابلة للنقاش والحوار بالتي هي أحسن.
هؤلاء الذين هكذا لغتهم في الحديث، وأسلوبهم في التخاطب والحوار، هم أبعد ما يكونون بالتأكيد عن امتلاك مهارات الحوار والتخاطب التي تجنبهم الوقوع في مزالق الكلام. كما يمكن أن تدفعنا تصرفاتهم هذه للتساؤل والشك عن مدى امتلاكهم القدر الكافي من الخلق والإيمان والورع الديني الذي يمنعهم ويصدهم عن الإنجرار إلى متاهات السجالات والانفعالات والتوترات التي لا يستطيعون أثنائها من مسك أنفسهم عن الانزلاق والسقوط في ما لا تحمد عقباه.
وللحديث صلة...