عندما يقسم الأمير
كثيرون يقسمون بأغلظ الأيمان دون أن تترك أقسامهم تلك أدنى أثر في النفوس السوية، لأنهم يتخذون القسم مطية لتحقيق أغراضهم ومآربهم ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ التوبة 62، والمتتبع للفظة ( يحلفون ) في القرآن الكريم سيجد أنها تركز على هذا النوع من الحلف الكاذب الذي لا قيمة له، بل يجب الحذر منه وكشف الأهداف الخفية التي يتستر عليها خصوصا في هذا الزمن المريب الذي كثر فيه الحلافون ممتهنو الوعود الكاذبة والشعارات البراقة الزائفة. فالحلف عند هؤلاء ليس إلا واجهة يستطيعون من خلالها الضحك على ذقون البعض ممن يسهل استخفافهم والذين ينخدعون بظواهر الأشياء دون النفاذ إلى عمقها؛ فليس كل مسجد مسجدا ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ التوبة 107
أما إذا أردنا إعادة الاعتبار للقسم، فعلينا أن نتتلمذ على يد صاحب الأقسام العظيمة الصادقة التي لا يمكن أن يمر عليها الإنسان مرور الكرام، لأنها صدرت من رجل منحه النبي الأعظم ( ص ) وساما من أشرف الأوسمة يوم خيبر حين قال في الحديث المروي عند الفريقين: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
حين يقسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع ) فإن كل قسم يحتاج إلى وقفة أو وقفات تأمل لاكتشاف المراتب السامية التي نعجز – نحن المقيدين بألف قيد وقيد - عن تصورها، فضلا عن التفكير في الاقتراب منها والاندكاك بها.
كيف يمكن لنا – نحن الذي نهرب من الموت ونحيد عنه- أن نتصور رجلا يقسم بالله صادقا أن أنسه بالموت أكثر من أنس الطفل الرضيع بثدي أمه: واللهِ لابنُ أبي طالبٍ آنَسُ بالموت مِن الطفل بِثَدْي أُمِّه.
إن علامة أولياء الله كما ذكرها القرآن الكريم أنهم يتمنون الموت لأنهم على يقين تام بأن الآخرة خير وأبقى : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ الجمعة 6، لذا فهم يأنسون بالموت.
كيف يمكن لنا في زمن استشراء الظلم والفساد ونهب المال العام وإهدار حقوق الإنسان أن نستوعب مقولة مشفوعة بقسم عظيم يؤكد صاحبها لكل الميكافيليين أنه ليس على استعداد أن يسلب شيئا تافها (جُلب شعيرة أي قشر شعيرة ) من مخلوق بسيط ضعيف ( نملة ) حتى لو أعطي في مقابل ذلك الدنيا بما فيها:
والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته.
وإذا كان لا يظلم نملة، فهل يظلم أحدا من العباد؟! إنه يقسم أن تحمل أقسى أنواع الأذى الجسدي من مبيت على الأشواك القاسية، أو جر في القيود والأغلال أحب إلى نفسه الشريفة من أن يلقى الله ملوثا بالظلم وانتهاك حقوق الآخرين:
والله لأَن أَبِيتَ على حَسَكِ السَّعدان مُسَهَّداً، أو أُجَرَّ في الأغلالِ مُصفَّداً، أحبُّ إلَيَّ مِن أن ألقَى اللهَ ورسولَه يومَ القيامةِ ظالماً لبعضِ العِباد، أو غاصباً لشيءٍ مِن الحُطام، وكيف أظْلِم أحداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إلى البِلى قُفُولُها، ويَطولُ في الثَّرى حُلُولُها ؟!
كيف يمكن أن نتخيل شخصا كان بإمكانه أن يستولي على ما شاء من الأموال الطائلة والثروات الضخمة يخرج إلى السوق ليبيع سيفه ويقسم أنه مضطر لفعل ذلك لأنه لا يملك ثمن إزار:
عن أبي رجاء قال: أخرج علي عليه السلام سيفا إلى السوق، فقال من يشتري مني هذا؟ فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته.
كيف يمكن في زمن التكالب على المناصب والمراكز والتطاحن على استحلاب الوظائف العامة ذات الضروع المليارية أن نتفهم بعمق نظرته الاحتقارية والازدرائية لأرفع المناصب الدنيوية، وأن قيمة المنصب والسلطة تتحدد عنده بإقامة الحق ودفع الجور:
دخل ابن عباس عليه بذي قار وهو يخصف نعله، فقال له: ما قيمة هذا النعل؟ فأجابه ابن عباس: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا.
هذه شذرات من أقسامه عليه السلام يفتح لنا كل واحد منها نافذة على عالم هذا الرجل الكنز الذي لم يكتشفه العالم بعد، وما زال مجهولا حتى في أوساط المسلمين.