المرأة الكاشيرة ... (وعقارب الساعة التي لن تعود بنا إلى الوراء)
لا أحد منا يستطيع بالتأكيد في هذا الزمن، إعادة الأمور إلى الوراء، كما يحب أن يتخيل ذلك البعض. فآلة الزمن، التي قد تنطلق بنا إلى الوراء بسرعة فائقة، لم تخترع بعد، ولا أظنها ستخترع أبداً، على الإطلاق.
لذا، فربما يمكنك أخي المسلم، العودة بمخك وبمخيلتك وبلباسك وبسلوكك وبتفكيرك وبصداقاتك وبعاداتك ... وبأشياء كثيرة أخرى تخصك، إلى الوراء. لكنك، لن تستطيع بالتأكيد، خصوصاً في هذا العصر، العودة بمجتمعك برمته، ورغماً عنه، مما هو فيه، ومما هو عليه اليوم، من تطور تقني وفكري وحضاري ومعرفي، تابع لتطور وتحضر بقية الأمم والشعوب، إلى الوراء، أو إلى حيث لا توجد تقنية، ولا ثورات تقنية ومعرفية تذكر، ولو على طريقة تلك الانقلابات الثورية الحماسية، المألوفة في التاريخ القديم.
نعم ... بالتأكيد، وكلما (تكت) الساعة في يدي تكاتها المعتادة، تزداد ثقتي أكثر، كما ازدادت من قبل، بأن الزمن واقعاً واقعٌ في خط ازدهار، ويسير بنا إلى الأمام، لا إلى الوراء، ويتجه بنا في مسارٍ لا رجعة فيه بتاتاً، ولا يمكن السيطرة عليه، لا من قبل رجل رجعي واحد مفرد، ولا من قبل مجموعة من أولئك الرجال، أو حتى تيار.
وهنا، يمكنني القول أن (الرجل السوبر) الذي نحبه ونحلم به، والذي يمكنه جر الأمة والواقع برمته إلى الوراء، ولو شبراً واحداً أو بضعة سنتيمترات فقط لا غير، على خط التحولات والتغيرات المضطردة والمتتابعة والمتوالية، ليس فقط سوى وهم وسراب خادع. إذ لا يمكن لذلك (السوبرمان) فعلاً الظهور إلا فقط وفقط، في محافل الذكر المغشوشة، ومسارح الأناشيد والغناء، وإلا فقط وفقط، في أحلام الضعفاء والبسطاء والسذج والجهلاء. فالمعادلات الحضارية والاجتماعية الصحيحة والواقعية التي نشهدها اليوم، باتت معروفة وواضحة، لكل ذي لبٍ وعقل، وهي أكبر وأعظم وأصعب من أن تقلب برغبة مجتمع أو أمة جاهلة متخلفة، ومن أن يسيطر عليها بالقوة الرجعية، بواسطة أمثال ذلك (السوبرمان) فائق السلطان.
إننا عندما نعود للتاريخ القريب اليوم، لنستفسر منه عن تاريخ ذلك (السوبرمان)، أو الرجل الخارق في الأمة، فسنجد أن ذلك الرجل السوبر، وكما هو معروف عنه، قد دخل في السعودية ... مثلاً، في ستينيات القرن العشرين، حرباً ضروساً ضد البرقية، ثم حرباً أخرى ضارية ضد المذياع ... واستمر هكذا ... بغباء، لكنه في النهاية انهزم ولم ينتصر.
لكن، من عاداته - أي ذلك الرجل السوبر -، أن لا يعترف بتلك الهزائم، وأن لا يظهر دائماً إلا بمظهر الرجل المنتصر. لا بسبب شجاعته الفذة وقوته الفائقة والمفرطة، بل بسبب غبائه وعنجهيته، وبسبب صداعه المزمن بداء الانتصار الكاذب. لذا فرغم كل الهزائم الكبرى، ورغم أم الهزائم، فقد بقي (السوبرمان) هذا، مصراً على تحقيق الهزيمة الساحقة تلو الهزيمة الماحقة ... الخ. فلم تتوقف لديه تلك الهزائم الكبرى حتى اليوم.
لقد وقف السلطان عالي الشأن - أو (السوبرمان) الأخرق هذا -، في وجه التلفاز، يوماً ما، عندما تم إحضار ذلك الجهاز المبارك - في نظر بعض أبناء الأمة المسلمة - لأرض المملكة العربية السعودية، في أول أمر هذا التلفاز. وقام لاحقاً كذلك من باب التأكيد على المواقف الشجاعة والصحيحة، بإطلاق بعض (رصاصات الرحمة) على بعض الأطباق الفضائية اللاقطة - وليست الطائرة طبعاً -، التي كانت تستقبل القنوات الفضائية من السماء في بدايات البث الفضائي، حين كان يتم تهريب تلك الأجهزة - كما كان يشاع - من دول الجوار إلى داخل المملكة العربية السعودية ... الخ. لكن تلك الرصاصات في الأخير حين تكشفت الحقيقة، لم تكن واقعاً (رصاصات رحمة)، بل دليل طيشٍ وغباء. وأكثر ما استطاع فعله ذلك الرجل السوبر برجاله وبركبانه وبجميع جنوده في كل حروبه السابقة واللاحقة ضد الزمن وضد التطور وضد الحضارة والحياة، هو الصراخ من فوق أعواد المنابر، ضد هذا وذاك، ضد (ميكي ماوس) مثلاً، وضد غيره، وكذا نفخ بعض المشاعر في بعض الطبول الخرقاء، وتعطيل أو إبطاء عجلة الزمن والتقدم والتطور، المندفعة بقوة، فقط بعض الوقت.
لقد أثبت (السوبرمان) لنا جميعاً، لمن كان منا يبصر فهو بصير، أو أوتي السمع فهو سميع، أو أوتي الفهم فهو فهيم، عبر كل ما سبق من تجارب واقعية، أنه يسير عكس تيار الحضارة، وأنه لا يملك قدرة تُذكر، ولا حلول تنشر، ولا رؤية واقعية للحياة تفعَّل في الواقع من أجل الحياة ... ومع ذلك فهو رغم عجزه الكبير، فلا زال يرقص، ويراقص الغباء والأغبياء، ويرفض فكرة التقاعد، من عقول البسطاء من الناس.
لقد مللنا وسئمنا، كل الصراخ، وكل التهريج، وكل الشعارات الرنانة العريضة الفارغة والمغشوشة - مثل شعار (الحضارة الكونية) الذي ينفخه البعض - ... الخ. لكن ذلك (السوبرمان)، لازال فينا ويفتينا، ولا زال معمراً، ومغرماً بتصفيق بعض الحمقى وبعض البسطاء، ولا زال مغرماً بالكتب الصفراء والبنية والداكنة والمعتمة والمهترئة والعمياء، ولا زال مفعماً بحماسة أشعار بعض الأوائل، التي ليس فيها سوى ضره ومدحه ... ونفخه وذبحه.
وها هو اليوم، هذه المرة، ينتفض مجدداً أمام الجميع، وعلى شاشات الفضاء، بلا خجل، ودون استحياء، رغم عمى كل السنين الماضية، ضد عمل المرأة، خصوصا ضد الكاشيرات من النساء، الآت يخيل إليه أنهن يعملن رقاصات، أو أنهن من (بنات الهوى) - حاشاهن - اللات يتكسبن من غير الطريق الحلال، غير عابئ بأوضاعهن الاقتصادية، ولا بما قد يؤدي إليه الفقر من ضياع، ليصرخ في وجوههن، وفي وجوه الجميع، بقوة ودون خجلٍ أو حياء، كما صرخ من قبل، باسم الدين وباسم الشرع وبالفم الملآن: "ممنوع وحرام وستذهبون جميعاً إلى النار".
ونحن ببساطة، لا نريد أن نطيل ذلك الجدل الطويل، والحديث المرير، إلا بالتي هي أحسن، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى. لذا فسنختصر هذه الدعابة البسيطة هنا، بالقول لمن أراد مثل تلك البلاهات مجدداً ... وبهدوء ... وأياً كان دينه ولونه وجنسه: "أخي ... (مجدداً) ... لن تتوقف عجلة الزمن، ولن يركب أحدٌ في هذا المركب، الذي تدعوهم إليه، لأنه حتماً سيغرق، ولن تتجدد إلا بطولاتك السابقة الخاسرة، وعقارب الساعة لن تعود بنا إلى الوراء، وسترفض ذلك بقوة، فالواقع يفرض نفسه، والمصالح البشرية هي الأهم، وهي في الواقع ما سيتحقق، والمرأة ضمن مشروع التطور البشري، ستعمل شئنا أم أبينا، في هذا الحقل، وفي غيره من الحقول، وليس فقط في حقول النخيل والزيتون والفول والرمان، كما تتمنى، يا نشيد الضياع. ولذا، فالوقوف هنا ضد عمل المرأة، ليس سوى خسارة لك ولنا، ومضيعة للوقت، وتعطيل لتحضر الأمة ... والسلام".
إن من الأجدر، بنا وبك، في هذا الزمن العصيب، أيها (الرجل الخارق)، إن كنت تسمعني هنا فتعي، أن تسعى أنت اليوم، وأن نسعى جميعاً معاً، في سبيل التحضر، وفي سبل تقنين ما يحمي المرأة الموظفة والعاملة حاضراً ومستقبلاً، وفي سبيل تثقيفها لتحصينها، وفي سبيل توفير كل ما يوفر أجواء عمل آمنة مريحة لها ولمجتمعها، وأن تبذل أنت، وأن نبذل نحن - أيضاً -، الجهود المضاعفة، من أجل سن قوانين، وتشريع أنظمة، وإيجاد آليات، تصون تلك المرأة المسلمة العاملة، لا أن نقف، أو تقف أنت، كحجر عثرة في وجه (المتكسبات بالحلال)، وضد حق بسيط من حقوق (المرأة الشريفة)، وضد قضية بات واضحاً، أن الزمن سيفرضها على الجميع بالقوة، شاء من شاء، وأبى من أبى، إن عاجلاً أو آجلاً.
لقد ولى فعلاً، وقت الصراخ والنهيق والعويل، وزمان حروب المائة عام، والأف سنة، والوقت الذي كانت فيه البعير تسير على الرمال، والمرأة تحبس فيه في البيت، كالعصفور المسجون والمذبوح من الوريد، وقد أكل الدهر على ذلك الزمن وشرب و(با ...) ... "ولا بلاش".
وهنا، يطيب لي في الختام، وأنا أؤمن أن الصور الذهنية التي تسير أفعالنا وتسيطر علينا، يصنعها المثقفون أحياناً والكلمة الحرة الواعية الناضجة، أن أختم هذا الحديث والجدل، الدائر حول المرأة الكاشيرة، وعملها في (المحلات الباردة والمكيفة والمسورة)، لا بموائد الطعام الطويلة العريضة المملوءة بأصناف الطعام، والتي تعجب البسطاء والعوام، فيهرعون مهرولين إليها، بل بتعليق بسيط، ذي معنى بليغ وحكمة بالغة، وجدته منشوراً في أحد مواقع الإنترنت، أزفه هنا، حيث يقول فيه صاحبه: "الفرق بين الكاشيرة وصاحبة البسطة، هو زيادة الدخل والتكييف والحراسة الأمنية".
هذا ... والسلام ختام.