"تجريم الإساءة للرموز" في الميزان
بين فينة وأخرى تطل علينا بعض الشخصيات بآراء حادة في بعض الشخصيات التي تعتبر عند طرف مَّا رموزًا محترمة لا ينبغي المساس بها مطلقًا. ومقابل ذلك، نجد بعض المدافعين عن هذه الرموز أو من يتعاطف معهم من الأطراف الأخرى يطالب بسن القوانين التي "تجرِّم" و"تمنع" الإساءة لهذه الرموز، بل و"تعاقب" عليها أيضًا.
هنا وبعيدًا عن فوضى البيانات والاستنكارات النارية التي تعيشها الساحة، وفي جو هادئ تمامًا، ودون الانحياز لطرف معين، نتعرض لبعض النقاط التي قد تشوب هذه المطالبة بالتجريم لنكون على بصيرة من أمرنا ونسير في الاتجاه الصحيح الذي يوافق المبادئ الإنسانية والرسالية ولا نُستغفَل ونُستغًل في تعاملنا مع مثل هذه الحوادث تحت أي شعار ومبرر.
موقف الإسلام من الإساءة لرموز "الحق"
بدايةً نتعرض لأصل الفكرة، وهي "تجريم ومنع الإساءة للرموز"؛ هل هي فكرة توافق القرآن والسنة؟
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم وسيرة وأحاديث الرسول الأعظم والأئمة من أهل بيته، يجد أن الأسلوب "السائد" في التعامل مع الإساءة لـ "أعظم رموز ديانات الحق" يقتصر على الحوار وتبيين الحق وإقامة الحجة وإن كان المسيء "غارقًا في الجهالة ويتبع أساليب التطاول والإهانة ولا يعتمد على دليل معتبر"، وأقصى ما يصل إليه الأمر هو النهي والاستنكار الشديد والتحذير من عذاب الله في الآخرة إن لم يرتدع المسيء.
نعم.. وردت حالات مغايرة، ولكنها حالات "استثنائية جدًا" إن صحَّ ما روي أصلاً، ومنها ما روي أن رسول الله في حالات نادرة وقليلة جدًا أهدر دماء بعض من هجاه وشتمه في ظروف الحرب، إلا أنه لم ينقَل أن ذلك القرار دخل حيز التنفيذ قط، بل نقل أنه عفا عنهم، فلم يعدُ ذلك كونه تخويفًا على الصعيد العملي.
أما التعامل السائد، فهو كما ذكرنا، ومن الشواهد المختصرة جدًا على ذلك ما يلي:
- ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [(1)].
- ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا..﴾ [(2)].
- ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾[(3)].
- ﴿.. وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا... بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾[(4)].
ومن السنة الشريفة تعامل رسول الله مع الأعرابي الذي جذبه من ردائه جذبة بان أثرها في عنقه مخاطبًا إياه: "يا محمد أعطني من مال الله الذي هو عندك فإنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك"، فما كان إلا أن أعطاه رسول الله من ذلك المال بعد أن بيَّن له وبكل لين أن ما صدر منه هو تعدٍّ على الآخرين.
وكذلك تعامل أمير المؤمنين علي مع من كفروه في مسجده وهو الحاكم الأعلى للبلاد الإسلامية آنذاك، فلم يقطع عنهم العطاء من بيت المال، ولم يغلق لهم مسجدًا أو يمنع لهم منبرًا، كما لم يعتقل منهم أحدًا أو يعاقبه، بل نهى أن يتعرض لهم أحد بسوء، وكان مبدؤه معهم كما كان دائمًا: "لأسالمَّن ما سلمت أمور المسلمين"، ولم يحاربهم إلا بعد ما أراقوا دماء المسلمين من العزَّل والشيوخ والنساء والأطفال.
وعلى هذا، فلا نرى رجحانًا لهذا التوجه لسنِّ قانون يمنع ويجرِّم الإساءة والتطاول على الرموز، فالتعامل السليم مع الإساءة للرموز هو النقاش وتبيين عظم وخطر هذه الإساءة وعقابها في الآخرة ثم تفويض الأمر إلى الله، وهذا ما سار عليه شيعة أهل البيت طوال التاريخ وأيضًا في السنوات الأخيرة مع من تطاول وكفَّر أم رسول الله السيدة آمنة بنت وهب، وكفًّر عمه وناصره الصحابي العظيم أبو طالب مؤمن قريش، وصرَّح بأن في خروج الحسين على يزيد مفسدة كبيرة وأنه غُرر به، وأساء لوالدة الإمام المهدي(عج)، وتجاوز عليه(عج) شخصيًا بأقبح الألفاظ.. إلخ.
ولكن إذا تجاوزنا كل ذلك، فهناك أيضًا نقاط أخرى لا بد من الالتفات لها للحد من المضاعفات السلبية لهكذا توجه.
ما المقصود بـ "الإساءة"؟
أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نحدد بدقة ماذا نقصد بـ "الإساءة" المجرَّمة ولا نلقي الكلام على عواهنه لئلاً نقع فيما لا تحمد عقباه من تكبيل النفس وهدم القيم.
هل "تقييم" أي شخصية يعتبرها بعض الناس رمزاً هو جرم يعاقَب عليه؟ هل يعتبر "النقد" بل و"المهاجمة" و"التنديد" بأي رمز لمجموعة من البشر جرمًا؟ هل "إدانة" أي رمز عبر ذكر أفعاله التي نقلها التاريخ وأثبتت عليه عبر اتباع طرق البحث العلمية هي جناية لا تغتفر؟
هل يدخل مجرد البحث وإبداء الرأي و"الاعتقاد" في رمز ما، وإن لم يكن فيه أي اعتداء "مادي" على أتباعه من قتل وهدم وإتلاف ممتلكات وما شابه ذلك ضمن إطار هذا التجريم؟
إن الجريمة المدانة باتفاق العقلاء من البشر هي إجازة القتل والتحريض عليه لمجرد الاختلاف في فهم الدين وبعض عقائده وممارساته، وتفجير الآمنين وقتل الأبرياء، ونسف الأماكن المقدسة للغير. أما مجرد اتخاذ المواقف الحادة من بعض الشخصيات –ولا سيما التاريخية منها-، فهذا ما لا يجرِّمه أي عاقل منصف حر.
يجب تعريف "الإساءة" المقصودة لئلا تكمَّم الأفواه، ويغلق باب البحث الحر والمنصف. يجب تعريف "الإساءة" لئلا تكون درعًا يقي الظالمين الغابرين والمعاصرين، ويدفع سهام العدالة والحق عنهم، وهذا جرم عظيم بحق البشرية، فقبح الظلم وظلماته وآثاره لا تسقط بتعاقب الزمن ومرور الأيام، ولا ينبغي لها ذلك.
ما المقصود بـ "رموز" الطرف الآخر الذين لا تجوز الإساءة لهم؟
ينبغي تحديد الرموز المقصودة في هذه المطالبة؛ هل هي الرموز المُجْمَع عليها بين المسلمين؟ أم تشمل كافة الرموز لكافة الفِرَق؟
قد بيَّنا موقف الإسلام فيما يتعلق بالحالة الأولى في الفقرة الأولى من هذا المقال، أما بخصوص الحالة الثانية فإنه ليس من المعقول أن كل شخصية يحترمها بعض الناس ويعتبرونها رمزًا يمثلهم، يكون التعرض لها جرمًا. إن لكل ظالم ومنحرف أتباعًا من البشر، قلُّوا أم كثروا، وبالتالي لا يجوز التعرض لهم احترامًا لأتباعهم، بناء على هذه الفرضية، وهذا يفتح أبوابًا جديدة للدفاع عن الظلم والعدوان والضلال لم يكن الطواغيت يحلمون بها، فلا يجوز التعرض لهتلر وموسوليني وستالين والحَجَّاج وأبو العباس عبد الله السفَّاح والمتوكل وصدام لأنهم رموز لأتباعهم. وكذلك لا يجوز التعرض لـ "الشيطان" وآلاف الأصنام والآلهة لأنها رموز دينية لمن يتشارك الأوطان مع بعض المسلمين، فحتى الشيطان له ديانة تجلِّه وتقدسه.
إن هذا الأمر خطير جدًا، وخصوصًا إذا جاء باسم الدين ورجال الدين، لأننا بذلك نضيِّع تضحيات المضحين، وجهود الأنبياء والمرسلين، ودماء أئمة الدين التي سالت غزيرة على مذبح محاربة الظلم والجور والزيغ والانحراف والأصنام البشرية قبل الحجرية، وبهذا نفرِّغ الدين من روحه وطعمه ومعناه تدريجيًا.
هل نتحول من تجريم الظالم وإدانته إلى تجريم من يقاومه ويدينه؟ هل نتبرع لأن نكون جلاوزة للطواغيت الأموات يجلدون من يتعرض لهم وهم في قبورهم بعد أن منعت جلاوزتهم معاصريهم من تعريتهم في حياتهم؟ هل نعطي الظالم سلاحًا جديدًا بحجة أنه رمز لينال ممن لا تطالهم يده من معارضيه ومدينيه؟ هل تكون الوحدة على حساب دماء الأبرياء التي أريقت ظلمًا، وتضليل الملايين، وهدم قيم الدين والإنسانية؟ أي دين هو هذا؟ وأي ظلم أعظم من ذا؟
قد يسيء المسيؤون إلى رموز مطهرة شريفة ونقية ظلمًا وعدوانًا إذا لم يعاقبوا، ولكن هذا أهون بكثير من غلق باب تعرية الظالمين والمنحرفين تحت أي مبرر، لأن الأول يسهل فيه تبيين الحق أما الثاني فيؤدي إلى امتزاج الحق بالباطل فلا يعلم هذا من ذاك مما يصب في زعزعة العدل، وتضييع حقوق الإنسان، وتشويه الإسلام، وتحريف العقيدة، والبقاء في زنزانة التخلف والتعصب والتبعية والجهل.
ولذلك نجد أن الدول المتقدمة تبيح وبشكل كامل التعرض للشخصيات والرموز العامة التاريخية والمعاصرة مهما كانت رمزيتها وقداستها الدينية والقانونية والاجتماعية حرصًا على تعرية أي ظالم ومنحرف يتلبس بلباس القداسة والنزاهة.
قال أمير المؤمنين علي: "وكونا للظالم خصمًا، وللمظلوم عونًا"، وقال تعالى: "لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا" [(5)].