ضباب في طريق الحقيقة
منذ أن أعلن إبليس استكباره ورفضه إطاعة الله تعالى بالطريقة التي يريدها جل وعلا حيث أن تلك الطريقة لا تتماشى مع فكره ومشاعره القاصرة ، منذ ذلك الوقت تولد خطٌ للباطل وأصبح إبليس اللعين مؤسسا وقائدا وممثلا لهذا الخط .
كان يمتلك الشجاعة في إعلان رفضه لطاعة الله تعالى ولكن حينما أراد أن يجلب أعوانا وأتباعا فقد هذه الشجاعة وراح يغلف الباطل بغلاف الحق ليزينه للآخرين فينجروا وراءه .
ومن رحمة الله تعالى أن أرسل الرسل وجعل الأوصياء والأئمة (عليهم السلام ) ليبنوا للكون المنهج الرباني الذي يريده الله تعالى منهم وفي نفس الوقت يدحضوا المنهج الشيطاني ويحذروا الكون منه ...
ونحن اليوم في هذا العالم الرحب ، نعيش في خضم هذا الصراع المزمن ، ونعيش بين وجوه كثيرة للباطل ولكنها تلبس أقنعة مزيفة من الحق ، وكل هذا يعتبر جزءا من المعادلة الإلهية التي أرادها الله تعالى وهي قوله عز وجل ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [1]
وفي الوقت الذي تكمن فيه أهمية كشف الأقنعة المزيف المتلبسة بلباس الحق نجد أهمية دراسة الموانع التي تحد من هذه العلمية وبالتالي تحد من قدرتنا على التمييز بين الحق والباطل .
وهذه الموانع أو العقبات على تعددها وتنوعها إلا أن أبرزها ثلاث عقبات : الجهل والإمعة والهوى .
الجهل تارة يكون في قبال العلم ، وتارة يكون في قبال الحكمة والعقل .
وفي كلا الحالتين فإن الجهل يمثل الظلام الذي يقابل النور فإذا أردت أن تعرف حقيقة الجهل فكل ما عليك هو أن تعرف الظلام وتتخيل نفسك فيه ،
يا ترى مالذي سيحدث لو كنت في مكان مظلم لا ضوء فيه أبدا؟
ربما تقع في حفرة وتموت ،
ربما يسقط عليك شيء فيكسر عظمك أو يفصل جزءا من بدنك ،
ربما تصطدم بشيء فتتألم ألما فادحا ،
وإذا لم يحدث ذلك فإنك تعيش حالة الخوف والاضطراب من حدوث مالاتتوقعه، وحتى تزيل الخوف جزئيا فإنك لا تغامر بأن تخطو خطوة واحدة للأمام .
ومع كل ذلك فأنت لا تستمتع بأي شيء حولك لأن كل شيء يحتاج إلى ضوء حتى تنعكس صورته في عينيك فتراه .
إن عقولنا حياتها تكمن في النور الذي هو العلم الذي يضيء الدرب في أعماقها فإذا فقد العلم حل الظلام عليها وهو الجهل .
ولكن أي نوع من الظلام ؟؟ يقول أحد الحكماء الصينيين واسمه كنفوشيوس :
الجهل ليل العقل لكن لا يوجد فيه قمر ولا نجوم ...نعم ظلام معتم .
وبعد كل ذلك لا عجب أن نجد من يعيش في ظلامات الجهل خائفا مرتبكا تائها حائرا وذلك واضح من تخبطاته في مواقفه وأقواله وغير ذلك.
إن الجهل هو أحد مصادر التعصب والعناد وأحد مصادر التذرع والتبرير للباطل بالإضافة لكونه مصدرا للإعراض عن الحق ومن هنا كان سدا منيعا يحول دون كشف الباطل المتلبس بلباس الحق.
نعم لو تأملنا النزاعات القائمة الحالية والماضية لوجدنا أن الأغلبية تعيش في الغرفة الظلماء التي ليس فيها سوى الجهل الذي يدفعهم نحو التعصب والتبرير والإعراض ، لذلك أصبح ما يهمها هو إخراس الآخر حتى وإن كان على حق وبأي طريقة حتى وإن لزم الأمر استخدام الشيطنة.
من هنا أصبحنا مطالبين بعصيان الجهل ومحاربته في أنفسنا وأسرنا ومجتمعنا حتى لا يكون عقبة مانعة لنا من كشف الحق المزيف .
قال أمير المؤمنين 
((أطع العلم واعص الجهل تفلح )) [2]
إذا الفلاح في عصيان الجهل ورفضه وإذا كان لهذا الجهل طريق وسبيل يروج إليه من قبل الجهال فعلينا الحذر وعدم اتباعه:
قال تعالى في ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) ﴾ [3]
لا شك أن الإسلام حرص على بناء المجتمع الإسلامي بناءا رصينا ليكون في مقدمة المجتمعات البشرية المتحضرة ويتضح ذلك من خلال حرصه على بناء شخصية الفرد الذي يتكون منه المجتمع وفي الوقت ذاته تحذيره من الأمور التي تؤدي إلى ضعف الشخصية وامتهانها واستعبادها ومن أبرز الأمور التي حذر منها الإسلام وحاربها هي ( الإمعة ) .
والإمعة قد أوضح معناها الإمام موسى بن جعفر عليه السلام حينما قال لفضل بن يونس:
( أَبْلِغْ خَيْراً وَ قُلْ خَيْراً وَ لَا تَكُنْ إِمَّعَةً . قُلْتُ : وَمَا الْإِمَّعَةُ ؟ قَالَ : لَا تَقُلْ أَنَا مَعَ النَّاسِ وَ أَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ) [4]
الإمعة ببساطة هو الشخص الذي لا رأي له فهو يتابع كل أحد على رأيه ، مع كل الناس ، ومع كل الاتجاهات ، يجامل الناس جميعاً ، مع هؤلاء و مع هؤلاء ، مذبذب لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ، هو مع مصلحته الحقيقية... فما أقبح أن يكون الإنسان إمعة
الإمعة لا يملك مبدأ ينطلق منه ولا يملك قيما يسير عليها لذلك هذا الرجل يباع ويشترى بأبخس الأثمان ، وعلى عكسه صاحب المبدأ فهو رجل عظيم لا يقبل أنصاف الحلول ، لا يباع ولا يشترى.
ولكن مع الأسف الشديد إن الإمعة هي السائد في مجتمعاتنا الإسلامية وبشكل واسع بداية من الأسرة وانتهاء إلى أعلى المستويات السياسية والاجتماعية والدينية وربما تبرر باسم الدين أو المحافظة على الموروثات الاجتماعية أو الأخلاقية أو التربوية أو غير ذلك.
الإمعة = الهمج الرعاع
وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي حينما قال لكميل بن زياد ((الناس ثلاثة عالم رباني و متعلم على سبيل نجاة و همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجئوا إلى ركن وثيق)) [5]
كيف يشكل هؤلاء عقبة تمنع كشف الباطل المتلبس بالحق ...
إن الإمام عليه السلام أشار إلى حقيقة هؤلاء الهمج وهي أنهم : 1- لم يستضيئوا بنور العلم 2- لم يلجئوا إلى ركن وثيق
إذا الإمعة إنسان جاهل ، ليس فقط بالشكل المقابل للعلم وإنما أيضا بالشكل المقابل للعقل. وكفى بهاتين الخصلتين كاشفا عن العقبة الموجودة.
إن الإمام عليه السلام في الحديث السابق شبه أولئك الذين لا يعرفون طريق الحياة الصحيح ولا يسمحون لأنفسهم بالتفكير به بل غاية حظهم اتباعهم للآخرين اتباعا أعمى شبههم بالذباب إذ هم يحيطون بجاهل أكبر منهم يستمدون منه وهو يغذيهم فهم يتبعون الغير من دون تفحص لكون ما عنده حقا أو باطلا ، بل يتبعون الغير لمجرد كونه قائد حزب أو شخصية تحظى بالتبجيل والاحترام بالنسبة لهم فكل واحد منهم لا يرى لنفسه حق التفكير حيث أن عينه وأذنه مرتهنان بأقلام الآخرين وألسنتهم فيما يكتبون ويقولون . فأمثال هؤلاء يطأون الحق بأقدامهم إذا قادهم مبطل ويرفعون لواء الحق إذا قادهم محق تجدهم السلاح لإصلاح العالم وفي نفس الوقت السلاح لإفساد العالم .
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعل له مقومات ثلاثة تحقق له السعادة في هذه الدنيا ومن ثم السعادة في الآخرة وهذه المقومات هي العقل والنفس والروح ومع هذه المقومات هناك أدوات تحكم ، تتحكم بهذه المقومات سلبا أو إيجابا وعلى رأس هذه الأدوات : الحكمة والهوى.
ففي الوقت الذي تكون فيه الحكمة صديقة للعقل وتضع الشيء في موضعه ، نجد أن الهوى عدو للعقل مع أنه يتحكم به سلبا ويجبره على عمل ما يناقضه (أي العقل ) .
حينما نتحدث عن شخصية صاحب الهوى نجد أن مشكلته الأساسية ليست في عدم قدرته على التمييز بين الحق الأصيل والحق المزيف وإن كان ذلك جزءا ولكن الأساس هو في رفضه للتمييز بين الحق والباطل أو في رفضه لقبول الحق بعد اتضاحه له .
لذلك قال النبي محمد 
((إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الامل أما الهوى فإنه يصد عن الحق ، وأما طول الامل فينسي الآخرة)) [6]
فصاحب الهوى عليه الحذر لأن هواه يصده عن الحق ، وكذلك الآخرين لابد أن يحذروا صاحب الهوى لأنه إذا كان هواه يجعله يرفض الحق فكيف يرشدك إليه ؟ إذا أرشدك إلى الحق الذي رفضه هو فسينكشف أمره وسيفتضح لذلك يخفي عنك الحق بل ربما يشوه لك الحق أو يشغلك عن الحق بتلميعه للباطل.
مشكلة الناس أنها تريد الحق أن يكون وفقا لأهوائها وهذا الشعور وهذه الإرادة كانت سببا لطرد إبليس عليه اللعنة .
إن إبليس لم تكن عنده مشكلة في عبادة الله تعالى ، كان مستعدا أن يعبد الله تعالى ولكن مشكلته أنه يريد أن يعبد الله عز وجل بالطريقة التي تتناسب معه ، ومع أفكاره ، ومع أهوائه لذلك طرد ..
واليوم هؤلاء الناس الذين يريدون أن يعبدوا الله وفقا لأهؤاهم هؤلاء يتبعون الطريق الإبليسي الشيطاني لذلك تجدهم يقبلون بعض الحق ويرفضون البعض الآخر .
في كل صراع بين الحق الأصيل والحق المزيف نحتاج إلى إدراك هذه العقبات حيث أن مروجوا الحق المزيف يستعملون هذه العقبات كوسائل تضليلية للآخرين، وما الصراع الأخير الذي حدث خلال الشهر الماضي إلا أحد أنواع الصراعات التي تحتاج إلى إدراك تلك العقبات حيث أنها وظفت بكل قوة ومع الأسف هناك من خدع بها فبدل أن يطالب بإزالتها تراه يسعى بكل ما أوتي من قوة لإيجادها على الأرض.
ومما سبق نستطيع القول: إذا أردنا التمييز بين الحق الأصيل والحق المزيف فلابد أن نتجاوز العقبات المانعة لذلك وهذا يتطلب منا محاربة الجهل والإمعة والهوى في ذواتنا وأسرنا ومجتمعاتنا ومسؤولية ذلك تقع على كاهل كل واحد يريد الخير لنفسه وأسرته ومجتمعه ، ولا شك أن المسؤلية تزداد على العلماء إذ هم خير الخير إذا صلحوا وشر الشر إذا فسدوا .
