تغييب الإمام الصادق لمصلحة من؟
"منذ أكثر من عشرين عاما استرعى التفاتي – وأنا أبحث في تاريخ التشريع الإسلامي والعلوم الدينية – الإمام جعفر الصادق سليل البيت النبوي الكريم، وما كان له من شخصية عظيمة في الفقه الإسلامي ومنزلة لا تجارى في عالم الفكر العربي، وفي الجانب الروحي بصفة خاصة. فوضعت في ذلك الوقت بحثا تناولت فيه جوانب من سيرته وعلمه ومنهجه الفكري والفقهي، واستغرق ذلك مني قرابة ثمانين صفحة. ثم عرضت الفكرة على أستاذنا المرحوم عبد الوهاب عزام، وهو من النفر القليل المشهود لهم – في نظري – بالقدرة على الجمع بين أخلاق القدماء ومناهج المحدثين. ولكن الأستاذ الوقور لم يكد يسمع بعنوان البحث حتى علت وجهه السمح بسمة خفيفة، فهمت منها كل شيء... فهمت أن هذه الشخصية – على الرغم مما تحتله من مكانة عظيمة- هي مما يهم علماء الشيعة أكثر مما يعني علماء السنة، ولو كان ذلك البحث في مجال " الجامعة " التي يجب أن تكون أرحب صدرا مما تدعو إليه الطائفية المذهبية من تخصص أو تفرضه البيئة من مخططات محدودة ضيقة الفكر."
مضى على هذا النص أكثر من 40 عاما، فهو مقتطف من مقدمة الأستاذ الدكتور حامد حفني داود - الذي كان يعمل رئيسا لقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس بالقاهرة- لكتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لمؤلفه أسد حيدر. ونلاحظ – أنه على الرغم من أجواء التقارب المذهبي التي كانت سائدة في ذلك الوقت – إلا أن شخصية فكرية منفتحة كالدكتور حامد حفني داود يلقى صدا من قامة علمية بعيدة عن التعصب، وفي جو أكاديمي يفترض أن تكون ضالته العلم والحقيقة، وفي بلد معروف بالتسامح وتأسست على أرضه دار التقريب بين المذاهب الإسلامية.
وهكذا وئدت في ذلك الوقت فكرة كتاب أراد مؤلفه أن يكون عنوانه " جعفر الصادق: إمام العلماء الربانيين وأول المبعوثين من المجددين"، ويعلل الأستاذ حامد وأد الفكرة قائلا " فإن الدوافع البيئية والوجدانية لمن يعيشون حولي كانت تردني إلى الوراء وتحملني على اليأس أكثر مما تحملني على الكتابة والانطلاق في الموضوع".
وعلى الرغم من مضي أكثر من أربعين عاما كانت كافية لاستفاقة الأمة من نومتها إلا أنها على ما يبدو لا زالت تصر على دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية من باب جديد تستحدثه يطلق عليه باب نوم الأمم. حيث لا يزال الإمام الصادق عليه السلام يعاني حالة التهميش والإقصاء من المناهج التعليمية والتربوية، ومن التغييب على مستوى الإعلام والثقافة والبحوث والدراسات، وكأنه لم يكن رائد مدرسة متميزة في المدينة المنورة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري. وكشاهد على ذلك يتحدث كتاب الصف الثالث الثانوي عن مدارس الفقه وأسباب ظهورها، فلا يأتي على أي ذكر للإمام الصادق عليه السلام، فهو يذكر أن أشهر علماء مدرسة الحجاز هم فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير.
لا أدري أين هذا من قول الإمام مالك: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا. أو من قول أبي حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد. أو من قول ابن حجر في الصواعق المحرقة وهو يتحدث عن الإمام الصادق: "ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الكبار، كيحيى بن سعيد، ابن جريح، مالك، السفيانيين وأبي حنيفة".
الإمام الصادق عليه السلام لم يكن مدرسة عابرة، بل كان بحق مدرسة متكاملة ذات أصول إسلامية راسخة استوعبت القرآن والسنة خير استيعاب، وأنتجت تراثا ضخما شمل مختلف الجوانب من عقيدة وفقه وفكر وأخلاق؛ واستطاعت بما تملك من قدرة علمية فائقة أن تدخل في حوارات مع كل التيارات والأطياف. فقد حاور عليه السلام أئمة المذاهب الإسلامية الفقهية والكلامية في قضايا الفقه والعقيدة والفكر، وحاور أتباع الملل والديانات الأخرى كاليهود والنصارى والمجوس، وحاور الملحدين والزنادقة والمشككين، وحاور الفلاسفة وعلماء الطبيعة والفلك والطب، وحاور الغلاة والخوارج وغيرهم من الفرق الأخرى. وقد حفظ لنا التاريخ كثيرا من هذه الحوارات التي لم يكتب لها أن تخترق جدار الصمت فتصل إلى المتلقين في ساحتنا الإسلامية.
فأين فقه الإمام الصادق، وأين آراؤه العقائدية في التوحيد والجبر والتفويض والقضاء والقدر والعدل الإلهي وصفات الله وغيرها، أين رؤاه الفلسفية الأصيلة، أين حكمه ووصاياه، أين المعارف الإلهية البليغة المبثوثة في الكتاب الذي أملاه على المفضل بن عمر، والمعروف بتوحيد المفضل، المشتمل على خَلْق الإنسان وتدبير الجنين في الرَّحِم وكيفيّة ولادة الجنين وغذائه وطلوعِ أسنانه وبلوغه، بالإضافة إلى مواضيع علميّة، عقائدية، فكريّة، روحية، حِكمية، عباديّة.
إن تغييب تراث الإمام الصادق عليه السلام هو تغييب لمنهج الحوار والاعتدال، وانتصار لثقافة التشنج والانغلاق التي أفسدت كل شيء، واستفادت من تقنيات التواصل والانفتاح العصرية في تكريس حالة التنافر والتشاحن والانفجار الطائفي. يشهد على ذلك الفيس بوك واليوتيوب وأخواتهما من الرضاعة.