لن ننقي تراثنا أبداً !
بعد المشكلة التي أثارها الشيخ ياسر الحبيب من لندن، ثارت زوابع عدة، منها المتطرف ومنها المعتدل ومنها الجاهل، هنا لست معنيا بإدانة الحبيب أو غيره، أو الثناء عليه، فهذا أمر فيه نظر كثير، والإدانة أو الثناء تحتاج لمساحة أكبر مما هو متاح لي في هذا المقال، ما سأحاول تناوله هنا هو دعوات خرجت علينا مطالبة إيانا بتنقية تراثنا الديني، أو تنقية كتب الحديث المعتمدة كمصدر ليس مقدسا وليس ذا صحة مطلقة في المذهب الشيعي، ولأننا ننظر لما قيل وليس لمن قال في معظم الأحوال، إلا أن المفاجأة المخيبة للآمال هنا هي أن المطالبة بتنقية التراث الشيعي خرجت من أصوات أكاديمية، بعضها تعودنا منه المنطقية في إجمال ما يطرح كالدكتور المزيني، وبعضهم تعودنا منهم الهرطقات ولا داعي لذكر أسمائهم.
ولأنني لست متخصصا في الفقه ولا الحديث، فلا أستطيع مقاربة هذا الأمر من منظور أصولي في علم الحديث، وبما أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإننا نستطيع مقاربة هذا الموضوع من زاوية علمية بحته نظرا أن معظم من صدرت منهم هذه المطالبات هم دكاترة أو أكاديميون، إن هذه المطالبات التي انطلقت بعد ما صرح به الشيخ ياسر الحبيب تتعارض مع المبدأ العلمي الأساسي في أي عملية بحث، وهذا ما تميزت به مدرسة أهل البيت، فإضافة إلى استقلالية الحوزات العلمية في إيران والعراق ماليا وسياسيا عن الحكومات، السابقة والحالية في كلا البلدين، فإن منهج البحث العملي والاجتهاد المعمول به في هذه الحوزات منذ أكثر من 700 سنة هو نفس المنهج الذي تعتمده كل الجامعات العالمية، وهي نفس المعايير والأسس التي يتم من خلالها تقييم أي بحث علمي أو رسالة أكاديمية.
إن مبدأ النقاء والصفاء ليس مبدأ علميا أبدا، ومن يطالب به فقد جانب الصواب أو جانبه الصواب، ففي أي علم طبيعي كان أو نظري، هناك نظريات نسخت بأخرى، وهناك نظريات مختلفة تتناول الأمر نفسه،ومع وجود نظريات خاطئة، وأخرى مختلف عليها، إلا أنه لا يتجرأ أحد على المطالبة بحذف هذه النظريات أو المقاربات العلمية أو النظرية لأي ظاهرة من الظواهر من الكتب التي تتناول هذا العلم أو ذاك، وهذا لأن وجود وتوافر هذا التراث الضخم والكبير والثري بالنظريات والمقاربات والتجارب والأدلة بين أيدي الأجيال المتعاقبة هو ما سيخلق نظريات جديدة ومتطورة، ولو لم يكن هذا التراث العلمي في مجال الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات موجودا بغثه وسمينه، لما تطور العلم وتقدم وأبدع العلماء بنظرياتهم ونتائج أبحاثهم، ولم تظهر أي مطالبة من أي عالم في أي مجال بحذف ما يعتقده غث من أي تراث علمي وفي أي مجال.