الكلمة الطيبة: بين منطق القوة وقوة المنطق "5"
هناك من يُظلم ويُبخس حقه في الكلام والتعبير عن مكنونات نفسه، أو البوح بما في صدره، أو لا تُعطى له فرصة المشاركة في التحدث والكلام والحوار، حتى انطلاقاً من ثقافة السؤال الذي يقود إلى الوعي والمعرفة، نتيجة ما يمارس عليه من ترهيب وزجر، أو تعالي وعدم احترام، مع أن الواجب والضرورة تقتضي أن يكون له الحق في التعبير عن رأيه وخياراته بصراحة معلنة وبدون تخفي أو مواربة. إلا أن المشكلة في مثل هكذا أجواء قامعة، هي عندما يُحوِّل البعض ألسنتهم إلى أداة سليطة قامعة، وسلطة شرسة مهيمنة، تحتكر الكلام والحكي، وتبالغ في اللغو والثرثرة، وتفرض على غيرها الصمت والسكوت.
وعندما يسود صخب اللغو والثرثرة، الذي لا يؤثر ولا يغير، ولا يساعد على البناء والتقدم والتراكم المفيد، فإنه من البديهي أن يغيب القول السديد والحوار الرشيد، والتلاقح والتفاعل الفكري البناء المنتج والمفيد، الذي يسهم في ردم الهوة بين المتكلمين والمتحاورين، وتخفيض سقف التوتر والتشنج، والانفعالات الناتجة عن الحقن والشحن المتبادل. والحقيقة على صعيد الواقع، أنه ما أن تطغى جعجعة الكلام، حتى يسود بعدها الصخب والثرثرة، فلا يعلو بعد ذلك صوت فوق صوت اللغو والصراخ والرغي بالكلام، "فالكل يتحدث والكل يحكي والكل يرغي ولا أحد يسمع أحد، ولذلك شاع وذاع بيننا -الكلام الساكت- حسب التعبير السوداني الشعبي المعروف، وهو الكلام الذي لا يضيف ولا يفيد ولا يأتي بجديد. وانظر حولك، أو بالأدق اسمع لمن حولك من أبطال ومن نجوم الكلام، وابحث إن استطعت إلى ذلك سبيلا، عن كلام مفيد، وعن كلام جديد، وعن كلام يطرح أسئلة ويفكر أكثر مما يقدم من إجابات قاطعة تمنع التفكير وتطالب بالتأييد والتصفيق". [1]
إن ما نشاهده من حفلات كلامية صاخبة في بعض برامج الفضائيات، لخير دليل على تفشي لغة الثرثرة واللغو والرغي والصراخ، وما تتسبب به وتثيره من أجواء مليئة بالانفعالات والشحن والتجييش، تقطر منها الأحقاد والضغينة، وتملأ النفوس بالبغضاء، والقلوب بالكراهية، وتحرض على نبذ الآخر ورفضه، فتمنع العقل السوي من التفكير والتأمل "عندما تتحول مفهومات كالحوار والتعبير عن الأفكار وتبادل الآراء وتلاقح وجهات النظر في وسيلة جماهيرية تنويرية مؤثرة كالتلفزيون، لمجرد صخب كلامي مفرغ من الأفكار والمعلومات، وحتى من أبسط مقومات الاحترام الآدمي. واستشرت عدوى الكلاميات، وربّت كوكبة صناع البرامج المثيرة في جمهور النظارة كل محفزات الثقافة الانفعالية لمصفوفات الكلاميات، وأخذ موقف مسبق وفقاً لمنطق إما هذا وإما ذاك، وعلى حساب الأفكار والمفاهيم وقيم التفاعل المنتج للمجتمع. بطبيعة الحال لا تدري أي معيار مهني هذا الذي يستند إليه المحرضون الجدد في استزراع كل هذا الأداء المحتقن في بيئة أرضيتها خصبة أصلا بكل مهارات الفحولة والدوغمائية والتسلط، والتعالي على أبسط مسلمات المنطق، والانتصار للذات على حساب الحقيقة". [2]
لقد تحولت بعض من هذه البرامج الحوارية إلى حفلات للصراخ، التي لا يسمع فيها احد لغيره، وساحة للمشاجرات الكلامية التي تتأجج فيها النفوس، وحلبة صراع ومصارعة تستخدم فيها لغة القدح والذم والاستفزاز، وخناقات يتبادل فيها كل الأطراف الكلمات والألفاظ والأوصاف والشتائم والاتهامات التي تمس الشرف والأخلاق والأمهات والزوجات وغير ذلك مما يؤذي السمع وتثير الأعصاب بلا فائدة، وكأن الجميع في سوق للمزادات العلنية، أو في ساحة لتصفية الحساب.
إذا أضحى كل منا على مثل هذه الشاكلة، يطرب لسماع صوته، ويُغفل صوت غيره أو يقمعه، ولا يتواضع في خفض علو صوته وتعالي نبرته، من اجل ترك المجال للعقل أن يفكر ويتدبر ويبحث ويستنتج بهدوء، بعيدا عن الصراخ والضجيج والصخب، في عملية حوارية منطقية ومقنعة، فإن ذلك لن يكون إلا تعبيرا عن مأزق مصيري موحش نغرق في متاهاته، ونتيه في ظلماته، ولن يكون من الممكن لنا تجاوزه إلا بالتأسيس لقاعدة حوارية صلبة، وخطاب حواري متين.
ولعل أبرز الشروط التي لا بد أن تتوافر في أي حوار هادف ومنتج، هو "الاعتماد على العلم والموضوعية، حتى يصل إلى النتائج المأمولة، بعد إسناده إلى المنطق العلمي الذي يجد إذنا صاغية لدى المستمع أو المتلقي، وحتى يركز الأرضية الصالحة لخطابه في صعيد الواقع، من خلال الحجة التي لا يملك الآخرون إلا أن يحترموها، حتى وان جادلوا صاحب الفكرة في فكرته، أو حاولوا قطع الطريق عليه بهدف منعه من النفاذ إلى عقول الجماهير ونفوسهم. وقد علمنا الله تعالى ألا ندخل في محاججة مع الناس إلا على أساس العلم والحجة، وأن ينطلق الحوار من خلال معرفتنا للقضية، لأن الجهل ينبغي أن يكون دافعاً للسكوت أو للسؤال وليس منطلقاً للجدال والمماحكة. قال تعالى:﴾ ها أنتم هؤلاء حاججتم في مالكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم﴿...أما الذين ينطلقون في الحوار على أساس السجال بعيدا عن مفردات الحقيقة، فإنهم يشقون على أنفسهم ويعطلون حركة المجتمع، وقد يربكون الأمة والمجتمع في سجالاتهم إذا سلكوا طريق الاتهام أو اعتمدوا أساليب التجريح والشتم والتضليل التي تقود إلى الفوضى، أو تفضي إلى الفتنة". [3]
انه لشتان بين السجال والجدل العقيم، والحوار المنتج المفيد، في السجال كلٌ يخاطب نفسه ومريديه وجمهوره، ويطرب لسماع صوته ولا يأبه بمخاطبة غيره. أما في الحوار فالكل شركاء وجلوس حول الطاولة يخاطب الواحد فيهم الآخر، فتطرح الأفكار والبدائل والحلول، والحَكم هو العقل والمنطق في معالجة قضايا الخلاف، إلى أن يصل المتحلقون من حول الطاولة بالحوار إلى نتائج مقنعة وناجعة، بعيداً عن السجال والجدل العقيم، والذي لا ينتج إلا المزيد من التباعد والهوة والفرقة بين الفرقاء والمتحاورين، ويقطع صلة الوصل والتواصل بينهم. ومما يزيد من بعد الشقة والفرقة بين المختلفين، هو استمراء وغلو كلٌ منهم وشططه في استعمال ما في جعبته وقاموسه من تهم وسباب وكلمات مؤذية، تجعل القطيعة حكماً مؤكداً وأمراً محتماً في نهاية المطاف.
عندما يتردى مستوى الخطاب وينزل إلى مستويات هابطه من التدني والخواء، فإن ذلك يكشف عن مدى الانحدار في أخلاقيات الحوار وآداب التخاطب، وهو الأمر الذي يدعونا إلى البحث والتفتيش عن قيم وتعاليم ترتقي بمفهوم الحوار ومعانيه، وتصعد بأساليب التخاطب وطرقه، إلى درجة من العلو والسمو والرقي، ترتفع فيه معاني الفضيلة والأخلاق والقيم. ليكون الحوار في معناه ومضمونه انعكاسا وتكريسا لتفاعل وجداني محوره القلب والشعور، قبل أن يكون ممارسه مادية شكلية عابره، تتمظهر في الشكل والإطار الخارجي، بعيداً عن المضمون والمحتوى الداخلي.
وإذا كان مفهوم "الحوار يحتل هامشاً واسعاً في الواقع الثقافي الإسلامي، فإنه من الطبيعي أن نجد في تراثنا الكثير من المعاني التي تواكب الحوار في حركته الهادفة في عملية إنتاج للمفردات المتفاعلة مع طبيعة التنوع المعرفي من جهة، وفهم لطبيعة التفاعل الإنساني مع الخطاب والمضمون من جهة أخرى، ولهذا نجد القرآن الكريم يؤكد على الكلمة الرقيقة اللينة التي تحاكي القلب فتستثير فيه كل معاني الرحمة والمحبة، ولم يكن ذلك يمثل حالة استثنائية أو أسلوبا انتقائيا طارئاً، بل انه أدب الخطاب الرباني الذي يؤسسه القرآن كمنهج وسلوك عام في مسيرة الأنبياء، وفي الدعوة إلى الله حتى مع الطغاة والجبابرة: ﴾اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴿ ذلك لأن الخلاف مع الآخر مهما كان عميقاً لا يبرر الإساءة إذا كان الهدف إشاعة ثقافة النور والهدى، وخلق مناخ من التفاعل الايجابي، لا إثارة الغرائز والانفعال، وتحدي الكبرياء، وكما في الظلال (القول اللين لا يثير العزة بالإثم ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيذكر ويخشى)، وفي الميزان (المنع من أن يكلماه بخشونة وعنف وهو من أوجب آداب الدعوة). وفي الواقع الإنساني يشيع القرآن ثقافة الكلمة الطيبة التي ليست مجرد ألفاظ تجري على اللسان، ولكنها تحكي خلفية ثقافية إبتناء عقائدي في الآداب والأخلاق والسلوك ﴾وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن﴿ فلا مجال للانفعال ولا مكان لكلمات السباب والشتائم في ثقافتنا، وحسبنا الأدب النبوي الرفيع مع ما لاقاه من صنوف المحن وألوان العذاب ﴾اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون﴿، (إنني لم أبعث شتاماً ولا لعاناً)". [4]