بناء وصناعة التميز
لم يكن التميز يوماً مطلباً ذاتياً فقط، ولكنه مطلب جمعي يحتاجه المجتمع، لرفع أسقف كفايته على جميع الأصعدة. فالمتميز في أدائه سيكون عطاؤه وعمله بقدر تميزه.
وما نحتاج لتحقيق ذلك التميز الذي ننادي به هنا؛ هو تنمية الشعور بالشراكة والمسؤولية المجتمعية. كما يتطلب التميز استثارة روح الانتماء للفكرة ذاتها، وقبلاً للهدف الإيجابي، الذي يقدم ما ينفع في إطارٍ من الإبداع والتفرد والأصالة، بعيداً عن التقليدية، كما نحتاج أيضاً لدعم الأفكار المتميزة ورعايتها، ووجود الدافعية، سواءً على مستوى الفرد أو الأمة، وهو ما يُعد شرطاً أساسياً نحو بلوغ الهدف. كذلك من الأهمية بمكان تنمية حس أفراد المجتمع بأكمله ليس فقط بعوائد التميز، بل بآلام التخلف والنمطية والعوائد المميتة جرائها، من أجل حملنا على سبل تفادي ذلك، وتشكيل وعي جمعي لدينا، ليضحي التميز صنعة يُسهم الجميع فيها.
ولا خلاف هنا بين تميز الفرد حيث يعمل كل من موقعه، وتميز المجموع، فقد يكون التميز نتاج شراكة بين مجموعة من الأفراد على المستوى المؤسساتي وخلافه، مثل الأبحاث الطبية، أو الفنون التي منها السيمفونيات العالمية، والفن التشكيلي، كمشروع الفنان التشكيلي عبد العظيم الضامن صاحب لوحة المحبة والسلام، الذي يسعى ليصل طولها 1000 متر، وأن يشارك فيها كل محبي السلام في العالم. أو الأنشطة الاجتماعية المتعددة، وأشير هنا إلى مشروع متميز في دولة عُمان عند الإخوة اللواتية، وهو "مشروع المناهل" الخاص بتقديم القروض الدراسية للطلاب والطالبات، الذي ساهم في مواصلة تعليم الكثيرين منهم، ولا علاقة له باختيار جهة الدراسة، فالطالب هو الذي يحدد الجهة، ويمكن للطالب التقدم بطلب القرض في بداية دراسته، كما يمكن لولي أمره أن يستثمر أقساطاً منذ المرحلة الابتدائية لولده ليستفيد منها ولده فيما بعد، وأيضاً ليستفيد من هذه المبالغ المتراكمة آخرون يحتاجون قروضاً. وقبل عام تقريباً أضيف للمناهل باب الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه. وهذا المشروع قائم على جهود وتبرعات أفراد خيرين من المجتمع. وهناك مشروع الحاج كاظم في دولة الكويت (صاحب حملة التوحيد للحج)، حيث شيد هذا المشروع مستشفيات، ومراكز ثقافية في كل من إيران، وباكستان، وأفغانستان. ويتفرع من هذا المشروع مشروع دار التوحيد، والذي وزع حتى الآن أكثر من 20 مليون كتاب بعدة لغات، وهي كُتب مُعالجة وبلغة راقية. كما أنه أسس «دار البلاغ» في مشهد، والذي يمضي على نفس المسيرة.
ولا يخفى أنه لا يمكن استنساخ تجارب مجتمعات أخرى، وتطبيقها على مجتمعنا، فلكل مجتمع خصوصياته. ولكن هذا لا يمنع من استفادتنا من تجارب الآخرين، خصوصاً القريبة منا، وأعني المجتمعات الخليجية، والتي لم يسع كثير من ناشطينا إلى الإطلاع عن قُرب على تجاربها الناجحة، لدرس إمكانية نقلها إلى مجتمعنا، بما يراعي طبيعته وخصائصه.
وكنت قد اقترحت قبل عام في إحدى المحاضرات التي قدمتها أن يكون هناك مواسم لرفع الوعي الاجتماعي والفكري في المجتمع، والمشروع عبارة عن اختيار عنوان رئيس واحد، _ أو عنوانان_، يطرح كل سنة، ويكون مُستوحى من المشاكل التي يُبتلى بها مجتمعنا، سواءً الاجتماعية أو الفكرية، ويتم التركيز عليه، والسعي إلى التميز فيه من خلال مختلف الفعاليات والوسائل التي نختارها بعناية ودقة، وتندرج تحت كل عنوان رئيس مجموعة من العناصر والعناوين الفرعية التي يمكن تناولها بشكل مستقل.
والسؤال الذي يُطرح هنا هل يكتسب العمل الاجتماعي (أو غير الاجتماعي) تميزه من دوافعه، أم من مقدار الجهد المبذول فيه، أم من نتائجه؟ والإجابة تكمن بين ثنايا السؤال، فالدوافع الايجابية الراقية الساعية لنماء الإنسان بصفته حاملاً لأمانة الله على أرضه، والجهود المتظافرة المبذولة في موقعها الصحيح، وفق رؤية نيّرة، و خطة محكمة، ومنهج قويم، لا شك أن نتاجها عمل متميز بإذن الله.
أما على من تقع مسؤولية ذلك؟ فإني أجد أن اللائقَ به أربابُ الوعي المخلصين في المجتمع، ومن الواجب عليهم؛ أن يعملوا على دعم هذه الصنعة بشتى السبل، على المنابر، وفي المساجد، وفي قاعات الدرس، وأركان البيت، وبين طيات المؤلفات، والصحف والمواقع الالكترونية.
ولنا قدوة حسنة في آل البيت عليهم السلام، الذين تفردوا بالأكمل الأمثل من الصفات. ونحن أتباعهم وعلى خطاهم - بإذن الله - نسير. فكيف لا تكون تلك الصنعة من أولى طموحاتنا، ولباساً لائقاً بنا، ونسعى بجهد جهيد إليها، لنقدّم للعالم أجمع إبداعاتٍ خاصّة بنا، وانجازات تليق برسالتنا. ولا يجوز التعلل بأوضاع سياسية، أو اقتصادية أو بيئية، أو مجتمعية. ولا الركون والاستسلام إلى واقعٍ يعادي احتياجاتنا ومتطلبات المرحلة الراهنة في إثبات الوجود.
فتميزنا يأتي في قدراتنا على تجاوز كل تلك الأوضاع، وتوظيف واقعها فيما يخدمنا. وللتاريخ شواهده الكثيرة حاضراً وماضياً، فقد تمكنت إيران من تحقيق اختراقات شاسعة في مجالات علمية مختلفة، أبرزها غزو الفضاء، ودخول النادي النووي الدولي، مما شكّل تهديداً مباشراً لإسرائيل، ووجوداً يحسب له ألف حساب من أقوى دول العالم، كما أصبحت اليابان تستنزف الأموال من أمريكا وأوروبا ثمن امتيازات اختراعاتها، وهي التي أصابها ما أصابها من دمار الحرب.
أما آخر الكلام ومنه البداية؛ فهو أنه ليس هناك مجتمعاً مهمّشاً، مقصيّاً؛ لأنه متميزٌ، بل هناك المنتهكة حقوقه لأنه ليس متميزاً بما يكفي ليكون.