بيت الله مثابة للناس وأمنا
قال تعالى ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ سورة البقرة، آية 125.
قالوا أن المراد من الجعل هو الإيجاد والخلق، وقال بعضهم هو التقدير فيكون الخلق متأخر عنه، وقسموه إلى قسمين:
الأول: الجعل التكويني؛ وهو: الذي يجعل على صورة معينة في أصل الخلقة ولا يكون للمخلوقين أثر في تلك الصورة من حيث الوجود أو العدم أو غيرهما، مثل جعل الضوء والنور في كل من الشمس والقمر كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً..... (5)﴾ سورة يونس.
وكما في جعل البصر من وضيفة العين والسمع من وظيفة الأذن وغيرها.
الثاني: الجعل التشريعي؛ وهو: أمر الله بإيجاد شيء من خلال تكليف المخلوق، وهذا يعني أن تحققه في الخارج بحاجة إلى التزام المخلوق بتكليف الخالق له . مثل الأوامر والنواهي الواردة في الشارع المقدس.
والسؤال هنا: هل أن الجعل الوارد في هذه المباركة تكويني أم تشريعي؟
يظهر من بعض المفسرين أن الجعل "بخصوص أمن مكّة له جهتان: فمن جهة منحها أمنا تكوينيّا، و لذلك لم تشهد في تاريخها إلا النزر القليل من إخلال الأمن، و من جهة ثانية منحها الأمن التشريعي، أي إن اللّه أقرّ أن يأمن جميع الناس -وحتّى الحيوانات- في هذه الأرض. و منع صيد الحيوانات، و عدم متابعة المجرمين الذين يلجئون إلى حرم الكعبة". [1]
ولكن النزر القليل الذي صرح به البعض هو في حقيقة الأمر كثير خصوصا وأن الجرائم التي حدثت في هذه البقعة المباركة من قبل الظلمة كثيرة بما فيها رمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق لذا يصعب القول بالتكويني من الجعل، اللهم إلا أن يقال أن الله أودع في قلوب هؤلاء بما فيهم الكفار والظلمة تعظيم البيت مما دفعهم لتثبيت الأمن فيها غالبا، أو يقال أن الجعل التكويني بحاجة إلى أن يحاط بجعل تشريعي لإبعاد أيدي العابثين عنه. والله العالم.
البيت في اللّغة هو المأوى و المنزل. و المرادبالبيت هو الكعبة المشرفة.
قال تعالى ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ .... (97)﴾ سورة المائدة.
و المَثابةُ في اللغة هو: الموضع الذي يُثابُ إليه أَي يُرْجَعُ إليه مرَّة بعد أُخرى. [2]
وقد نسب إلى أبي طالب عليه السلام أو إلى ورقة بن نوفل في وصف الحرم:
مثاب لإفناء القبائل كلها تخب إليه اليعملات الطلائح [3]
وقيل: الموضع الّذي يثاب إليه من ثاب يثوب مثابة و مثابا إذا رجع أو موضع الثواب أي يثابون لحجّة و اعتماره. [4]
وكلاهما صحيح فمن قصد البيت الحرام بقلبه وروحه ونفسه وجسده وذاق طعم العروج إلى عالم الإيمان من هناك فإن نفسه ستكون تواقة إلى العود والرجوع إلى ذلك. ويزيدها شوقا واندفاعا الأجر الجزيل والثواب المضاعف لمن فعل الخيرات وأقام الصلوات والتزم بالواجبات هناك.
وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ﴿يرجعون إليه لا يقضون منه وطراً﴾. [5]
وكلمة "للناس" توحي بأنها ليست لفئة مخصوصة أو لشعب معين بل هي لجميع البشر فمن آب إلى ربه واستحصل على الأهلية التي تخوله للوصول إلى البيت فإن أحدا لا يجوز له أن يصده عن الوصول إلى البيت الحرام، علما أن استحصال الأهلية بيده هو وليست بيد أحد من الخلق فمثلا الكافر الذي يمنعه الكفر من الوصول إلى البيت بإمكانه أن ينطق بالشهادتين عن يقين فيرتفع ما يمنعه من الوصول.
ويقول أستاذنا سماحة السيد المرجع المدرسي دام ظله: هنالك حجتان تمسك بهما أهل مكة للدلالة على أنهم أقرب إلى اللّه من غيرهم و بالتالي فلهم الحق في السيادة على العرب.
o
الحجة الأولى: أنهم أبناء إبراهيم و ورثته على البيت و قد ادحضها القرآن في (آية 124 من هذه السورة). [6]
o
الحجة الثانية: إن اللّه منّ على بلدهم باليسار والخير و كمثل كل الأغنياء في الأرض يزعمون أن اللّه لم ينعم عليهم بالغنى إلا لأنهم أقرب الناس إليه سبحانه و في الآيتين التاليتين دحض لهذه الحجة السخيفة يقول اللّه: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ مركزا للناس في الجزيرة يعودون إليه لما خرجوا منه. [7]
الأمن ضد الخوف وفي الغالب لا يعرف الإنسان قيمة هذه النعمة إلا عند طرد الخوف وبالتالي الإحساس بالأمن.
ونظرا لأهمية الأمن في حياة العباد وإعمار البلاد فقد جاء التركيز على أن البيت الحرام بيت آمن وبلد البيت بلد آمن ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ ورب البيت هو مصدر الأمن والأمان ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾
ووصف البيت والبلد بالأمن أحيط بعناية إلهية كتدخل السماء في رجم أبرهة بحجارة من سجيل حينما عزم على هدم الكعبة وتوجيه الحاج إلى كعبته.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)﴾ سورة الفيل.
وإلى جانب تلك العناية فرض تشريعات محكمة تفضي بتوافر الأمن والأمان فيها. ومن تلك التشريعات حرمة الصيد فيها بل وكل ما له علاقة بأمر الصيد كالإمساك والدلالة والأكل وما أشبه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ سورة المائدة، آبة 94.
وقد فسرت ﴿مَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي الْبَيْضُ وَالْفِرَاخُ وَ مَا تَنَالُهُ الرِّمَاحُ فَهُوَ مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي﴾. [8]
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ﴿لَا تَسْتَحِلَّنَّ شَيْئاً مِنَ الصَّيْدِ وَ أَنْتَ حَرَامٌ وَ لَا وَ أَنْتَ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ وَ لَا تَدُلَّنَّ عَلَيْهِ مُحِلًّا وَ لَا مُحْرِماً فَيَصْطَادَهُ وَ لَا تُشِرْ إِلَيْهِ فَيَسْتَحِلَّ مِنْ أَجْلِكَ فَإِنَّ فِيهِ فِدَاءً لِمَنْ تَعَمَّدَهُ﴾. [9]
فالحيوان إذا لا بد أن ينعم بالأمن من الصيد والذبح ما دام في الحرم، فإذا كان هذا حال الحيوان فاستشعار الأمن والأمان والطمأنينة في البيت وحواليه من باب أولى ولذا ورد النص بالنهي عن إقامة الحد على الجاني إذا التجأ إلى الحرم ما دام هناك. فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام: فِي الرَّجُلِ يَجْنِي فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ يَلْجَأُ إِلَى الْحَرَمِ؟ فقال عليه السلام: ﴿لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَ لَا يُطْعَمُ وَ لَا يُسْقَى وَ لَا يُكَلَّمُ وَ لَا يُبَايَعُ فَإِنَّهُ إِذَا فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَ إِنْ جَنَى فِي الْحَرَمِ جِنَايَةً أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ لِلْحَرَمِ حُرْمَة﴾.[10]
قال الشيخ الطوسي في الخلاف: إذا قتل أو قطع في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم، لم يقتل ولم يقطع، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج، فيقام عليه الحد. وقال الشافعي: يستقاد منه في الطرف والنفس معا في الحرم . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يستقاد منه في الطرف، فأما في النفس فلا يستقاد منه حتى يخرج، ويضيق عليه ويهجر ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج . [11]
وقال صاحب الجواهر: من أحدث ما يوجب حدا أو تعزيرا أو قصاصا ولجأ إلى الحرم ضيق عليه في المطعم والمشرب بأن لا يمكن من ماله ، بل يطعم ويسقى مالا يحتمله مثله عادة أو ما يسد الرمق كما عن بعض حتى يخرج ، ولو أحدث في الحرم قوبل بما تقتضيه جنايته فيه كل ذلك مع أنه لا خلاف أجده فيه. [12]
التوحيد أساس البيت وأساس رفع القواعد منه ولذا أصبح رمزا للتوحيد وكعبة الموحدين ومحط رحالهم على طول التاريخ، وهو المكان الآمن الذي جعله الباري أمنا للناس جميعا، وهذا يكشف عن وجود علاقة بين عقيدة التوحيد والأمن.
يظهر من الآيات التي تتحدث عن الأمن والشرك أن الأخير سبب أساس في إيجاد أسباب الخوف وهدم ركائز الأمن، والدين لا ينظر إلى الأعراض والمظاهر الناتجة عن الشرك فقط بل يعالج المشكلة من الجذور من خلال الدعوة إلى توحيد الله سبحانه ونفي الشرك بمختلف ألوانه.
ومن الواضح أن رضوخ الإنسان للآخر أيا كان بشرا كالطواغيت أو جمادا كالأصنام والكواكب وغيرهما ينبأ عن وجود ضعف في النفس ناتج عن اعتقاده بامتلاك الشريك للقدرة على التأثير في شؤونه أو في الحياة العامة. وبالتالي قدرة الشريك على توفير جملة من المصالح ومنها الأمن وإبعاد جملة من المخاطر كالجوع والخوف وغيرهما.
والقرآن الكريم يعالج هذا الضعف بتوجيه الإنسان إلى الواحد الأحد باعتباره المهيمن على كل شيء.
قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ سورة الأنعام.