خطابُ الإعتدالِ ... وقفةُ نقاش
عند حديثنا عن خطاب الإعتدال، فإن من الطبيعي أن يتم استدعاء الكثير من تلك العناوين المتنوعة ذات العلاقة بقضية الإعتدال. فخطاب الإعتدال لا يمكن أن ينأى بنفسه عن أن يكون متنوعاً وجزءً من معادلة طويلة ومعقدة لا يكتمل فيها معنى خطاب الإعتدال إلا بعد امتزاجه ببقية المكونات الأخرى، التي من خلالها جميعاً يمكن في نهاية المطاف الوصول لحالة من الإعتدال المنطقي الواقعي والحقيقي. فخطاب الإعتدال في واقعنا في الحقيقة بإيجاز ليس سوى منظومة متكاملة تكتنز التنوع والتكامل.
وفي الجهة المقابلة، فإن خطاب التطرف كذلك ما هو في الحقيقة إلا جزءٌ من معادلة متكاملة نقيضة رافضة للتنوع مرتبطة بقوة بالمعادلة النقيضة الأولى بعلاقة تضاد. وبين هاتين المعادلتين الكبيرتين يحتدم صراع (الوعي والجهل) و(النهوض والإنحطاط). وهذه إلتفاتة هامة وضرورية لنضج فهمنا لأبعاد خوضنا حديث خطاب الإعتدال. لذا، وجبت الإشارة إليها هنا في البدء، كي لا نقع في أسر خطاب إعتدال مزيف أو منقوص، معزول تماماً عن واقعية تلك المنظومة المتكاملة، قد يَعتبِر - أي ذلك الخطاب - الإعتدال فيها، مجرد إصلاح لبعض جزئيات التراث، كما هو حال وواقع بعض قراءاتنا وكتاباتنا الثقافية.
ولهذا، فقد كان من الطبيعي في تلك القراءات التسع المتكاملة مع بعضها، التي احتواها كتاب (رهانات خطاب الإعتدال والواقع المعاصر في المملكة العربية السعودية رؤى وقراءات) محل النقاش هنا، أن نجد ذلك التكامل والتنوع والتداخل حاضراً وبقوة، ليعكس حقيقة ذلك الواقع المعاش. وكنت أتمنى لو إكتملت روعة ذلك الجهد المميز، بقراءة تعنى بدراسة تحولات الخطاب الإعلامي في المملكة العربية السعودية إزاء قضية الإعتدال، وأن تخلو تلك القراءات التسع أيضاً، من الإسهاب في بعض النقاشات التي لا طائل من ورائها، كالنقاش في صحة عبارات ومفردات مثل: الإسلام الوسطي أو المعتدل والإسلام المتطرف[1] . ليكون ذلك في النهاية، مزيداً في تكامل موضوع هذا الكتاب.
وأياً يكن هنا، رأينا في تلك القراءات التسع المتفاوتة في متانتها وتقييمنا لها بالطبع، فلا بد في البدء، قبل أي نقاش، من الخضوع لضرورات خوض نقاش، أو تسليط بعض الضوء على، تعريف (خطاب الإعتدال)، لتحديد: ما هو الإعتدال؟ وما هو نقيضه؟. قبل الإبحار من هنا، في بقية النقاش.
ونتيجة إيماني بتعقيد التعريف والتحديد هنا، وذلك جراء تبعية الإعتدال في الحياة الإنسانية الواقعية - من وجهة نظري - للزمان والمكان والثقافة والظروف والمصالح المتطورة والمتغيرة باستمرار، حيث الإعتدال بالتأكيد - بحسب قناعاتي - لا يمكن أن يكون ثابتاً وواحداً - كما يعتقد البعض - في الجاهلية وبدايات دعوة الإسلام مثلاً، كما هو تماماً في القرن الحادي والعشرين، حيث يرى البعض هنا الإعتدال باعتباره، ما هو إلا العدل، والعدل لا يمكن أبداً أن يكون - بحسب قناعاتهم -، إلا هو هو، أي ثابتاً وواحداً، في كل عصرٍ وكل زمانٍ ومكان. لذا، فربما كان من الأيسر لي في هذه القراءة السريعة والعجلة أن أُعرِّف الإعتدال هروباً من ذلك الجدل المرتقب، بأنه مجرد: "التوسط بين شيئين"، كما ورد في بعض ثنايا الكتاب، رغم ما في هذا التعريف من ضبابية وإيهام، لا يمكن التحاكم إليها، لكنها ضبابية ربما يقتضيها المقام، أو أنها قد تبدو غير ذلك بالنسبة للبعض. لكن، من جهة أخرى، من أجل الواقعية والموضوعية والجرأة والوضوح والصراحة والتعبير عن الذات بصدق عند تعريفي للإعتدال، وكي لا يفقد النقاش قيمته ومضمونه، فلن أتجاوز هنا التعريف، إلا بعد القول بصراحة تامة، أن الإعتدال ما هو في الحقيقة، إلا تحقيق المصلحة البشرية، إما مصلحة الفرد الخاصة، بالشكل الذي لا ينقض المصلحة العامة، أو تحقيق المصلحة العامة للإنسانية، بالشكل الذي لا تنتقض فيه المصالح الخاصة والفردية بشكلٍ مجحف قدر الإمكان، مهما كان هنا إختلاف الأفكار والعقائد والمذاهب والأجناس والألوان، التي ينتمي إليها الناس في أرض الواقع المعاش. وعلى هذا الأساس الذي ينقض بعض الأفكار التراثية التقليدية، فيمكن إعادة تعريف خطاب الإعتدال هنا، على أنه خطاب المصلحة العامة لجميع بني الإنسان، المتجاوز لكل التصنيفات، غير ذات العلاقة بالمصلحة العامة. وهذا مما سيدخلنا بلا شك، في تناقضات ومتاهات مظلمة في دهاليز التراث وتفسيره وارتباطهما بقضية العدل، يتعذر معها على البعض بل الكثيرين منا، فهم أو قبول المراد.
ومن الضروري هنا أيضاً، في بحثنا وحديثنا هذا، أن أؤكد بوضوح على أنه في وسط هذه المعادلات المتداخلة والمتناقضة سابقة الذكر، فقد تبدو الأشياء على غير حقيقتها أو قد تأخذ صوراً متضخمة وغير واقعية، وهذا ما يجب التنبه له والحذر منه. فخطاب الإعتدال الإسلامي مثلاً، ذلك الهجين (العقلي - التراثي) في وسط تلك المعادلات قد لا يعدو كونه أنشودة إنسانية رائعة جميلة - كتلك الحاضرة في تلك القراءة التراثية الرائعة في ما سطره الأستاذ رائد السمهوري، وغيرها من قرآءات الكتاب المتفاوتة في جودتها المفيدة والهامة عموماً، المرتبطة بالتراث، والتي منها كذلك تلك القراءة أو الأنشودة التي سطرها الأستاذ غسان القين -، تطرب لها أسماع المستمعين، لكنها في الحقيقة في النهاية، قد تقع في مأزق التناقض مع بقية مكونات منظومة التراث والموروثات، فلا تستطيع أبداً إختراق ذلك المنطق الأعوج المستقر في أذهان الكثيرين منا، ما لم تكتمل فاعليتها بحضور بقية عناصر الإعتدال الأخرى. هذا طبعاً إن لم يحدث الأسوء من ذلك، وذلك بأن يتحول ذلك الهجين (التراثي - العقلي) نتيجة غياب بعض الشروط والعناصر، لمخدر قوي للعقل والمنطق، والذي يمكن أن ينبعث العقل، لولا حضوره التخديري القوي، ليثور في وجه تناقضات التراث والموروثات. وهذا ما وردت الإشارة إليه في الكتاب، في القراءة الرائعة والمميزة والجريئة للأستاذ/ علي آل طالب، التي يجب الإلتفات إليها جيداً، وذلك عند حديثه عن آراء المفكر الرائع/ سام هاريس (Sam Harris) [2] .
وكما سبق أن قلنا، فإن قراءة خطاب الإعتدال تستدعي النظر في مسائل وعوامل متنوعة مهمة وضرورية ومؤثرة في كامل معادلة الإعتدال، التي ننشد الوصول لتحقيقها في واقعنا المعاش، تتنوع بين قول وفعل وقرار، ترتبط جميعاً حتماً بشكل أو بآخر شئنا أم أبينا بخطاب الإعتدال، بحيث لا يمكن عزل القول عن الفعل والقرار، إلا بما تنفصل به الصورة عن الجسد القابع أمام المرآة. ويمكنني هنا في عجالة هذا البحث الإشارة من تلك العوامل المهمة الواردة في الكتاب، لما يلي، بشكلٍ مقتضب:
1- دور الإعتراف بالتعددية بأشكاله المتعددة، كما جاء في قراءة الأستاذ رائد السمهوري، ونقيضها تهميش الأقليات الدينية والمذهبية ... الخ بالطرق المختلفة، كما هو واضحٌ من سلوك المتطرفين وخطابهم في واقعنا المحلي.
2- دور الأنظمة والقوانين والمواثيق المحلية والإقليمية والدولية المعززة لخطاب الإعتدال، كما في قراءة الدكتور/ صادق الجبران.
3- دور وسائل الإعلام والمنابر الدينية في تعزيز التطرف أو تعزيز الإعتدال والتعددية.
4- دور تعزيز النقد خصوصاً النقد للأيديولوجيات الدينية، كما في قراءة الأستاذ/ علي آل طالب. أو بصيغة أخرى يمكنني القول دور تعزيز نمطية الشك وعدم القبول أو التسليم السهل في ساحات الفكر والإعتقاد. وأضيف كذلك، التأصيل الديني للإعتدال، لضروراته الملحة. وهو دور الخطاب الديني الذي أشار إليه فضيلة الشيخ فيصل العوامي.
5- دور تعزيز الحوار والتعارف والتقارب والتصالح مع الآخر.
6- دور العوامل الإقتصادية والعلمية والتقنية، في تعزيز خطاب التعايش والإعتدال.
7- دور قطاع التعليم في تعزيز خطاب التعايش والإعتدال.
8- دور تعزيز التسامح والسلوكيات الإيجابية تجاه الآخر، لدى أفراد المجتمع.
وهنا في إطار هذه التعددية، يكتمل مشهد (صورة المرآة /والجسد)، وتكتمل منظومة الإعتدال، التي عبر عنها فضيلة الشيخ محمد عبد الغني عطية من خلال حديثه عن الجمع بين الجانب النظري والجانب العملي من الإعتدال[3] ، والتي تجب معالجة خطاب الإعتدال من خلالها، حيث سنجد هنا: خطاب التعددية يقابله واقع التعددية، وخطاب التسامح يقابله واقع التسامح، وخطاب الإعتدال يقابله واقع الإعتدال ... الخ. لأخلص في النهاية هنا لما أقصد قوله، وهو أن المعالجات الثقافية (المجزأة والمبتورة عن الواقع والمشفرة) مهما كانت جيدة ومفيدة، فقد لا تأول في النهاية إلا إلى جعجعات بلا طحن، وقد لا تأول في النهاية إلا إلى مآلات الفشل والخذلان، ما لم تتكامل في النهاية مع أجزاء مشروع أو منظومة إعتدال متكاملة، تسقط كامل الصنم المسبب لتيه المجتمع، الذي يشار إليه عادة بصمت في كثيرٍ من خطاباتنا التوعوية.
وهنا يجب أن نلاحظ، أن كثيراً من خطاباتنا الثقافية الداعية إلى الإعتدال، غالباً ما تحمل في طياتها وفي محيطها النقيض، فينقضها نقيض الصورة ونقيض الجسد، بحيث تغدو مشاريع ناقصة بحاجة للإكمال، وخطابات توعية كثيراً ما تعتمد لغة التشفير والتلغيز كما أشرنا سابقاً، فتغدو من التعقيد بحيث تُغَيِبُ التوعية والتنوير في أعماقها، لتحتاج فيما بعد جهوداً كبيرة من التبسيط، لترويجها وسط الشريحة الواسعة من الجماهير وأبناء الأمة المحتاجة لذلك التبسيط، وهذا مما قد ينطبق على أجزاء من الكتاب، وربما على قراءتنا هذه أيضاً.
ولعل من الجيد هنا، أن نقف لِزَخمِ هذه القراءة بالتأملات، أمام بعض ما ورد في الكتاب موضع النقاش، وقفة نقد جادة، نتساءل من خلالها مثلاً، التساؤل التالي: فهل أدل على واقعنا المأزوم وخطاب الإعتدال المرتبك والمنقوص لدينا، من أن نحتاج لأن نورد في قراءاتنا وخطاباتنا الثقافية، الواردة في الكتاب مثلاً، عبارة تقول: "إن الحرية بحق أمرٌ مقدس فطر الله عليها الأرواح وهي في أعماق الإنسان كل الإنسان حتى العبد الذي يباع ويشترى"[4] ؟؟؟!!!. وكأن العبد الذي يباع ويشترى ليس بإنسان؟!!!.
وفي الختام، فلن أجد هنا خاتمة لهذه الورقة، لتعزيز خطاب الإعتدال في تفكير الكثيرين من أبناء الأمة، خيراً من كسر نمطية ذلك السكوت الرائج في فكرنا التقليدي المسكون بفوبيا مواجهة التساؤلات الحساسة التي تخترق حواجز التراث والتفسيرات الدينية النمطية، وذلك من خلال إثارة سؤالٍ لا نمطي، يقول: هل يحرم الرق في الإسلام؟ أم أنه أمرٌ جائز ومباح؟ تم تغييبه فقط، مجاراة ومجاملة للغرب "الكافر" - بين علامتي تنصيص- ؟. وهو سؤال غير نمطي في ثقافتنا، مرتبط بتعقيدات خطيرة ومربكة، لم يعتد الكثيرون منا على جرأة طرح مثلها على أنفسهم أمام الموروثات والتفسيرات الدينية، لحساسية التراث والتفسيرات الدينية المرتبطة به، المفرطة بالنسبة لهم. ثم هنا، بعد خوضنا غمار تلك التجربة للإجابة عن هذا السؤال، ومثيلاته من الأسئلة الجادة والحساسة، فكيف سننتقل فيما بعد، بأي نفسية وأي عقلية، لنخوض فيما بعد، غمار جدليات خطاب الإعتدال، مثل جدليات حرية الإعتقاد وجدليات حرية التعبير عن الرأي، دون تحررنا من تأزمات تلك المسألة أو المسائل السابقة؟!!!.