حـج الأجساد أم حـج الأرواح ؟
اصطلاحا .. الحج هو ما يعرف بأنه رحلة طويلة إلى مزار أو ضريح ذو أهمية قدسية في ديانة ما ، ويمارس العديد من أتباع ديانات العالم طقوس الحج بطرق شتى ، وُقبل الحجيج موزعة في أصقاع الأرض ، ويسمى الشخص الذي يؤدي هذه الطقوس بالحاج ، وفي العادة يتم الترحال ( الحج ) بشكل أفواج وجماعات، لتكـون القافلة ذات هيبة روحية وتعليمية ، ويصاحب الحجيج بعض التهليل والتمجيد حسب المعتقد والديانة.
للهندوس حج عظيم يحدث كل ثلاث سنوات، ويتنقل بين أربعة مواقع ، والحج الأكبر فقط مرة واحدة كل 12 سنة بأسم كومبه ميلا العظيم في مدينة ( الله أباد ) بدولة الهند ، حيث يحضر مابين 60 إلي 70 مليون شخص ، مما يجعله أكبر تجمهر بشري.
أما شعب الإنكا ( البيرو ) المقيمين بجبال الأنديز ، قد بنوا مدينة كاملة تعتبر الملاذ للشعب وتبعد أكثر من خمسين ميلا عن العاصمة كوزكـو ، والتي عرفها التاريخ باسم مدينة الذهب المفقودة ، والتي تدعى بـ ( ماتشا بيتشو ) وهي مدينة من مدن الذهب الخالص، حيث يحج إليها البيرويون كل عام مشياً حفاة شبه عراة ، فالنساء تتبع الرجال ( سواسية ) لبلوغ إله الشمس والقمر ليصفح عنهم ويكفر عنهم سيئاتهم .
أما حج البوذيون ، فإنهم يسيرون ثلاث خطوات ثم يصفقون بأيديهم ثلاث مرات ثم يستلقون على الارض ، والثلاث ضربات تعنى (الإنسان والعـقل ثم القلب ) أي حضور الجسم بالعقل والقـلب تباعاً ، وهكذا تستمر المسيرة ، وبنفس الوتيرة سيراً على الأقدام على مدى اربعة أشهر، وتحت وابل من سيول الأمطار ، بين الوديان والأنهار ، صبراً لا إكراهاً ، حتى يصلوا إلي تمثال بوذا العظيم في بورما أو تايلاند ، ( رحلة ملئها شقاء وعناء أو الموت في الطريق ! ).
بالنسبة للأديان السماوية ، فالحج مرهون بتواجد نبي أو تقليد أو أتباع لفعل نبي ، كما الحال عند اليهود والمسيح والمسلمين ، فحج اليهود هو زيارة بيت المقدس، حيث تقول التوراة ثلاث مرات يعيد لي في السنة، أي أنه يجب على كل يهودي (ذكر فقط ) أن يزور بيت المقدس ثلاث مرات في السنة ، ليظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل، وبما أنه لم يعد الهيكل ولا المعبد موجوداً ( حسب زعمهم ) ، فإنهم يحجون إلى حائط المبكى ( جدار البراق ) ، كما أنهم لم يتقيدوا بتعاليم التوراة فاليهود ذكوراً وإناثاً يحجون ، ويبدأ الأسبوع عندهم بيوم الجمعة .
وبالنسبة للديانة المسيحية ، فلا تحتوي أركانها الثلاث ، التجسد والصلب والقيامة على ركن الحج ، ومع ذلك ، فقد شعر المسيحيون القدامى في رغبة قوية أن يتذكروا أرض تواجد يسوع المسيح المقدسة ، وأماكن القديسين والمبشرين ، فبدأ بعض الآباء بفكرة الحج إلي الناصرة بفلسطين في بداية القرن الرابع الميلادي ، حتى تطورت شيئا فشيئا إلي يومنا هذا .
أما نحن المسلمون ، فحجنا ركنا واجباً لمن يستطيع إليه سبيلاً . ففي الحج نترك ملذات الحياة الدنيوية ، ونتجه أفواجاً من شتى أصقاع العالم ، ومن كل حدب وصوب بإتجاه ( أم القرى ) مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ، هجرة جماعية في قوافل منظمة وصفوفاً من البشرية ، وبرداء واحد ولون واحد ، أبيض كلون النقاء والصفاء والطهارة والسمو، حيث تتواكب الأفواج للدوران على الكعبة بعكس عقارب الساعة ، ومن ثم بلوغ الصفا والمروة ، والمبيت بمزدلفة ومنى وعرفة ، حتى رمي الجمرات ، والنحر ، ومن ثم الاحتفال بيوم العيد. كل هذه الشعائر تتبلور وسط معادلة وفلسفة إلهية عادلة تصب في مصلحة المخلوق المحتاج ، وفي الأخير يلبس الحاج ثوب من العفة والطهارة ليعود لوطنه إنساناً بروح جديدة ، تكسوه هالة من التواضع والتسامح والمساواة .
خلاصة المقال ، إن كل حج هو عبارة عن ( ترك للملذات وتوجه للعبادات ) ، وفيها الأجساد والأرواح متجهة في آن واحد ، ونحو قبلة معينة ، حيث مشقة الطريق تكشط تلك الأجساد وتعريها بالآلام ، وتلقائياً تطهر معها الأرواح من الذنوب وتصفو من الشوائب ، لكن السؤال : بعد رجوع الحجيج إلي نقطة الانطلاق ، ( الوطن ) وفسخ الإحرام، هل تصبح الروح طاهـرة داخل إنسان جديد كما ولدته أمه ؟ أم أيام الحج ، فقط فترة نقاهة مؤقتة ، كالتمثيل المصاحب لثوب الأحرام يلبس ويخلع في أي وقت ؟