عاشوراء وتأثير الذرّات
عندما يجد المرء نفسه وسط محيط من الركود والصمت بين ملايين من البشر في هذا العالم الواسع تخطر بباله أفكار وتساؤلات تثبط عزيمته، فتشله عن الكلام وتقعده عن الحراك وتتحول تدريجيا إلى تبريرات تخمد ضميره الملتهب وتريح صدره المثقل بالهموم والتطلعات. في كل مرة يرى فيها انتهاكاً لا مقاوم له، وتتحرك نفسه ليقف في طليعة المتصدين، تتسلل إلى مسامعه كلمات حفظها عن ظهر قلب لكنها تنال من عزيمته كما ينال الماء من الملح.
من بين جميع الناس، ماذا أستطيع أن أفعل أنا؟ ما هو الفرق الذي سيحدِثه عملي بين هذا الزحام الهائل؟ إذا كان فلان لم يعمل شيئا، فمن أنا لأعمل، ولماذا أعمل؟... هذه عيِّنة بسيطة من تلك الخواطر.
تقف الحيرة وعدم اليقين الكامل بالقضية والموقف وكذلك الإحباط واستصغار النفس خلف هذه التثبيطات والتبريرات، ولكن سرعان ما ينجلي الضباب وتسطع الحقيقة عندما نتأمل في عِبَر الماضي والحاضر وأحداثهما الكبرى. فَلَطالما انطلقت الأحداث العظام وثورات التغيير والإصلاح السياسي والإجتماعي والثقافي والديني من مبادرات شجاعة لأشخاص فجَّروا عزائمهم وطاقاتهم الفردية ثم حولوها إلى تيارات وأمواج جماعية واسعة دافعة باتجاه التغيير.
كذرات النور الآتية من بعيد لتبدد ظلمة السماء كل صباح، وقطرات السيل التي تجمع نفسها لتجرف كل ما يعيق تقدمها، تكون طاقات الفرد الذي يتحمل مسؤوليته بشجاعة ويشعل شمعة في وجه الظلام فتوقظ الغافلين وتخجل المتدثرين فيكون بذلك حلقة فاعلة في سلسلة النهوض والتغيير، و"إنَّ مستعظَمَ النيران من مستصغَر الشرر".
أما من ينسحب من الميدان ويتخلى عن مسؤوليته، فإنه يُسهِم في استمرار حالة الضعف والسقوط في المجتمع والأمة والتي لا بد وأن يناله شيء من وبالها بصورة أو بأخرى. إن نهوض كل فرد بواجبه كفرد هو توطئة لنهوض جماعي لإصلاح كل فاسد من أمورنا، وتخاذل أي فرد عن واجبه -مهما صغر- يشكل حجر عثرة في هذا الطريق.
وهنا تأتي عاشوراء بأنوارها وإشعاعها لتفتح بصيرتنا على هذه الحقيقة بصورة لا تقبل التشكيك ولا تتيح مجالاً للحيرة لأن تتسلل للنفس في مواجهة الفساد والتخلف والإعوجاج. تأتي عاشوراء لتبرهن لنا على أرض الواقع كيف أن "المؤمن أمة وحده" وأن "كلكم راع، وكلكم مسؤول"[1] . تأتي لتعلمنا أن الحسين آثر إنقاذ العالم من قيود الطغيان على الصمت كما صمت غيره أو الإعتكاف في المسجد الحرام كما فضَّل آخرون. لتعلمنا كيف كان ثبات مسلم ابن عقيل في موقع المسؤولية مجديًا وهو الذي كان وحيدًا فريدًا في الكوفة التي غدرت به وكان يمكن وبكل سهولة تبرير انسحابه منها لو فعل. لتعلمنا قيمة موقف حبيب ابن مظاهر ومسلم ابن عوسجة الشيخين الطاعنين في السن وسط مئات الآلاف من المتخاذلين عن نصرة أبي عبد الله. والدرس الأكبر يجسده الصمود الأسطوري للمولى الحسين، الوحيد الفريد الموتور العطشان النازف المنهك أمام الألوف التي جاءت لحربه من مختلف الأصقاع حتى حجبت الأفق وملأت القفار!!
لقد شكلت قطرات الدماء الطاهرة التي نزفت من جراحات الشباب والشيوخ والنساء والأطفال يوم عاشوراء طوفانًا جرف ولا يزال يجرف عروش الجور والطغيان ومظاهر الزيغ والإنحراف على مر العصور، فـ "الحسين وهو في قبره أعظم من جميع الطغاة وهم على عروشهم"[2] .
من المؤكد أن ليس كل تحرك ينجح –ولو على المدى القصير-، ولكنه من المؤكد أيضًا أن صاحبه ينال الشرف والخلود إن بنى تحركه على الحق والمبادئ العادلة، ودونك أصحاب الحسين خير شاهدٍ على ذلك حيث ما يزال ذكرهم خالدًا يتجدد كل عام -و فيهم من كان قبل التحاقه بالحسين من العبيد ومنحرفي العقيدة وجنود بني أمية- ولا تزال قبورهم المقدسة شاخصة للأبصار رغم مرور أكثر من 13 قرنًا على استشهادهم وأداء واجبهم في معركة الحق مع الباطل، ولا تزال هذه المسيرة مستمرة حتى هذا اليوم وستظل إلى أن يأذن الله، فـ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ﴾[3] .
ولنا من عالمنا المعاصر كذلك شواهد ودلائل، فهذا غاندي الذي تحمَّل مسؤوليته فأنهض حزب المؤتمر الهندي والذي أنهض بدوره الهند بأسرها واجتث الإستعمار البريطاني منها. وقد اشتهر اليوم أيضًا ما يعرف بنظرية "أثر الفراشة" ومفادها أن كثيرًا من التغيرات المتناهية في البساطة تسبب تغيرات عظيمة وكبيرة، وأن تحرك جناح فراشة في الشرق قد يسبب إعصارًا هائلاً في الغرب!
أما في الجانب الآخر فنلحظ واقعة شهيرة أثارت اهتمامًا كبيرًا عند علماء النفس والإجتماع الغربيين عندما اغتصِبت فتاة علنًا في إحدى مناطق نيويورك وكانت حينها مزدحمة بالمارة والجيران ولم يحرك أحد ساكنًا حتى بالإتصال بالشرطة رغم توسلات الفتاة واستنجادها بهم دون جدوى، والسبب في ذلك أن كل فرد كان ينتظر أن يقوم شخص مَّا بإبلاغ الشرطة، فبقي الجميع متفرجون على تلك المأساة المندية للجبين وتمكن الجاني من إتمام جريمته حتى النهاية!!
هذا ما يحدث تمامَّا عندما نتخلى عن مسؤوليتنا الفردية لتخلي الآخرين عنها، فلقد اعتاد أكثرنا على القيام بمسؤولياتهم عندما تحصل هبة جماعية لتحملها، وهذا أمر محمود، لكن الشرف الحقيقي هو عندما نتحمل مسؤوليتنا حتى في ظل تخاذل الآخرين عنها، فقيام كل فرد بواجبه الشخصي محرك للجموع للقيام بواجبها.
هذه إحدى الدروس البالغة الأهمية التي نستلهمها من عاشوراء الحسين، آملين أن تكون لنا نورًا هاديًا وإمامًا مرشدًا نحو تقويم أمور دنيانا وأخرانا بما يكون لله فيه رضا ولنا فيه خير وصلاح. ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾[4] .
"اللهم ثبت لنا قدم صدقٍ عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين"[5] .