الفعل الثقافي للشعائر (2-3)
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين ، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .
قال تعالى (ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ ) 32 / الحج
إن أي حركة تواصل اجتماعي وثقافي بين المجتمعات سوف تسهم فيما بعد في التشكيل الثقافي لهوية المجتمع ، وحجم هذا التشكيل يتناسب ومستوى حجم حركة التثاقف الحاصلة بين المجتمعات وعمق تأثيرها في البنى الثقافية للمجتمع ، وهذا ما يفسر التغير والتحول الحاصل للهويات الثقافية للمجتمعات .
قد كان حجم التواصل الثقافي والاجتماعي في العصور السالفة يعتمد على حركة الهجرات والسفر والترجمة والتعليم وما شابه ، لذا كانت حركة التثاقف تسير بوتيرة بطيئة ، فكانت التغيرات المشكلة للهوية تتطلب زمنا طويلا قد يقاس بالقرون ، ولكننا في هذا العصر نمر بمرحلة تثاقف متسارعة بين الشعوب بحكم حركة الإنفتاح وتسارع حركة التواصل الثقافي والاجتماعي بين الشعوب ، وبآليات متعددة بفضل التطور التكنولوجي وما أتاحه من فرص للتواصل السريع ، حيث القنوات الفضائية والانترنت ، وسهولة السفر والتنقل وما شابه .
كل ذلك أسهم في خلق مناخ من التحديات الثقافية الضاغطة على المجتمعات تهددها في هوياتها الثقافية ، فبتنا نعيش في عصر الانفتاح صراعا للثقافات والهويات ، فهناك هواجس حقيقية تهدد كثير من المجتمعات في هوياتها بما فيها المجتمعات المتقدمة ، فهذه الهواجس وهذه التهديدات لا تختص بعالمنا الاسلامي وحسب وإن كان هو الحلقة الأضعف في هذا الصراع بحكم موقعه المتخلف في ركب الحضارة سياسيا وثقافيا وعلميا وتكنولوجيا وغيرها ، فلقد سمعنا إلى قبل سنوات قلائل تصريحات أحد المسؤولين الفرنسيين وهو يتحدث عن خطر اجتياح الأفلام السينمائية الامريكية وتهديدها للثقافة الفرنسية .
أمام هذا التدفق الهائل للمعلومات ، وأمام هذا الإنفتاح الواسع من التواصلات الثقافية والاجتماعية بيننا وبين الشعوب الاخرى ، ماهي الوسيلة لحماية هوية مجتمعاتنا الإسلامية ؟ وماهي السبل لتحصين مجتمعاتنا في هوياتها الثقافية ؟ خاصة إذا ما علمنا أن هذا الحجم الكبير من حركة التثاقف ستنتهي لامحالة إلى تغييرات واسعة في ثقافة المجتمعات المتثاقفة إما سلبا أو إيجابا ، فقد تتشكل جراء ذلك هويات هجينة أو تتغلب هوية على أخرى ، فيبقى السؤال ، ما هو السبيل للخروج من هذا المأزق والحؤول دون انمساخ هوية مجتمعاتنا الاصيلة وذوبانها في هويات هي على النقيض من ثقافتنا ؟
هل الحل في الانغلاق ؟ لاشك أن هذا الحل ليس واقعيا لأنه لا أحد يمكنه إيقاف هذه الحركة من الاتصال الثقافي بل يستحيل إيقاف حركة الإنفتاح القائمة ، وحتى لو استطعنا فإن الانغلاق يجعلنا نعيش في عصر غير عصرنا وفي عالم غير عالمنا ، وقد حاولت بعض الدول البدائية في تصوراتها للعالم الجديد بمنع الصحون اللاقطة لتحجب مواطنيها من الإنفتاح على العالم ومشاهدة القنوات الفضائية ، إلا أن تيار الإنفتاح لم يعد تجدي معه قرارات إدارية لهذا القطر أو ذاك فهو تيار جارف وعابر للقارات والشعوب .
مادام الانغلاق ليس حلا واقعيا ، ومادامت التهديدات جدية وحقيقية ، فما هو السبيل إذن في خضم هذه التماوجات الثقافية لتحصين مجتمعاتنا ثقافيا والحفاظ على هوياتها ؟
لقد قامت بعض الدول بخطوات عملية لمواجهة هذا الخطر وهذه التهديدات بتعزيز هوية مجتمعاتها عبر إحياء الموروث الثقافي من تراثيات وفلكلور وفنون وتاريخ وغيرها ، ولا حظنا كيف أن بعض الدول الخليجية نحت في هذا الاتجاه ، بيد أننا نحن المسلمون نمتلك جهازا مناعيا في نظامنا الاسلامي والتشريعات الإلهية ، إلا أن هذا الجهاز المناعي يحتاج الى تنشيط وتفعيل .
هذا الجهاز الذي نعنيه هو تلك المنظومة التي أبدعها الاسلام من الشعائر الإلهية ، من حج وصلاة جماعة ، وأذان واعتكاف وندب للإمام الحسين عليه السلام وزيارته وغيرها من الشعائر ،فهذه المنظومة من الشعائر ، لو فُعِّلت لحافظت على الهوية الإسلامية لمجتمعاتنا .
الشعائر تعتبر من أهم الوسائل لتحصين المجتمع ثقافيا وذلك لأن الشعائر في تكوينها عبارة عن ممارسات رمزية تحمل في تضاعيفها وتختزل مضامين قيمية وعقدية ، وبممارستنا لها وإقامتها إنما نقوم بعملية استحضار لتلك المضامين التي تختزلها ونؤكد بهذه الممارسة حضور تلك القيم والمثل في حياتنا الاجتماعية والفردية .
إن ممارسة الشعائر تعمل على ترسيخ صبغة وهوية للمجتمع ، وتكرار ممارستها يعزز في المجتمع المنظومة القيمية والثقافية التي تعبر عنها هذه الشعائر ، كما أن تكرار ممارستها يمكِّن هذه الشعائر من أداء وظيفتها في تحصين المجتمع ، ويعمِّدها كعناوين وواجهة ثقافية لهذا المجتمع او ذاك ، كما وأنها على المستوى الفردي ( تجدد الشعائر الدينية لدى ممارستها التزام الفرد لتقاليد المجتمع ) [1] ، مما يعزز رابطته بهويته وثقافته ، وبالتالي تعمق إيمانه بمنظومة القيم التي تحملها تلك الشعائر .
من هنا فالشعائر هي الحصن الحصين لحفظ هوية مجتمعاتنا وثقافتها الاصيلة ، ويعتبر التفريط فيها تفريط بهوية وأصالة المجتمع ، فهي التي ستحمي مجتمعاتنا من أن تنماث في الهويات الأخرى وتحافظ عليها من الذوبان في الثقافات الوافدة وهيمنتها على حياة وثقافة وقيم المجتمع .
استهوت بعض مثقفينا عناوين العولمة الثقافية والهوية الإنسانية متوهمين بأن هناك هوية عالمية إنسانية خالصة وأنه ينبغي ان ننتصر لها ، وعليه تجدهم يميلون إلى تغييب هويتهم لصالح تلك الهوية المتوهمة ، وهم لا يعلمون أنه لا توجد في العالم هوية عالمية خالصة بل هي في حقيقتها هوية الغالب المتمكن ، حين يبسط قوته ويوظف إمكانياته لتعميم ثقافته ليجعل منها هوية ثقافية للعالم والإنسانية ، ففي الواقع لا توجد هوية خالصة وإنما هناك هوية غالبة وأخرى مغلوبة ، وهذا تماما عين قانون الانزياح ولكن في الهويات ، اذ لا توجد منطقة فراغ ، وأما ما يصطلحون عليه بالهوية العالمية إنما هو محض وهم ، ولا يشتريه إلا أولئك المفلسون الذين يعيشون حالة استلاب تجاه هويتهم وشعور بالصغار أمام الهويات الاخرى ، فهم لا يشعرون باعتزاز بهويتهم وثقافتهم ، فهؤلاء لا زالوا في تيه لا يعلمون كيف يصنعون .
القرآن الكريم يؤكد عند تناوله للشعائر دورها في تحصين الأمة ثقافيا بقوله (فإنها من تقوى القلوب ) ولفهم هذه الآية ودلالاتها سنعمد هنا إلى استنطاقها من خلال توضيح مفرداتها واستلهام مفاهيمها ، فقوله (فإنها ) إشارة إلى ممارسة الشعائر وبقوله (من) يريد منها التبعيضية وليس السببية ، و( التقوى) بمعنى الحماية والحفظ وليس الحذر كما في قوله تعالى (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) [2] وكما في الأثر (كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو واستقبلنا العدو به وقمنا خلفه وقاية ) [3] ، و كلمة ( القلوب) تعني جوهر الانسان وروحه ، أي ذلك الكيان الباطن للإنسان والذي هو محط التأثير والتغير ، ومكمن المرتكزات الثقافية والعقدية ، فما يصدر منا من سلوكيات وما نتخذه من مواقف إنما هي تمظهرات وتمثلات لهذه الروح في الخارج .
بعد هذه المقدمة التحليلية للآية ولعباراتها وتراكيبها سيظهر لنا أن دلالات الآية تؤكد حقيقة أن ممارسة الشعائر من أهم وسائل الوقاية والحفظ والتحصين لهويتنا الثقافية ، ولعل استعمال القرآن صيغة الجمع لكلمة (القلوب) في اسلوب بيانه في هذه الآية لعله يريد أن يشير إلى حقيقة وهي أن الشعائر تتوجه في تأثيرها بالدرجة الأولى للروح والكيان الجمعي للمجتمع قبل تأثيرها في الشخصية الفردية لأفراد المجتمع ، فهي تتعامل مع الشخصية الجمعية للمجتمع بالدرجة الأولى .
ويبقى سؤال تناولت إجابته الآية الكريمة وهو : ماهي الوسيلة الفضلى لتمكين الشعائر من أداء دورها والقيام بوظيفتها ؟
الآية تجيب بقولها (ذلك ومن يعظم شعائر الله ) حيث تشير إلى الآلية التي تمكن الشعائر من أداء دورها الوظيفي في التحصين الثقافي والبناء الاجتماعي ، وهي عملية التعظيم ، فالآية لم تكتفي بالحث على إحياء الشعائر وإنما طلبت هنا تعظيم الشعائر ، فرغم أن إحياء الشعائر من حالة السبات والموات أمر مهم إلا أن تنشيط دورها يتطلب مرتبة أعلى من الإحياء ألا وهي التعظيم ، فأي تعظيم تشير إليه الآية وتطلبه منا؟
الشعائر بذاتها مقدسة وقد سبق أن أسبغ الله تعالى عليها هذه القداسة إذن القرآن لا يطلب منا أن نسبغ عليها القداسة إنما يريد من طلبه تعظيمها أن نعلي ونعظم شأنها في المجتمع وفي أنفسنا بأن نوليها أهمية في أولويات حياتنا ونجعلها ذات قيمة اجتماعية وأن ننظر اليها بعين القداسة ، لا أن تكون أمرا هامشيا في حياتنا أو أنها آخر شيء في قائمة أولوياتنا ، حينها فقط يمكن أن يكون للشعائر دور حقيقي في تحصين مجتمعنا ووفق هذه الرؤية جاءت تلك التوجيهات المعصومة التي تأمرنا بإعلان الحداد يوم العاشر وبالامتناع عن كافة انشغالاتنا الحياتية والتفرغ في هذا اليوم فقط لإعلان المصاب وإقامة العزاء على سيد الشهداء الحسين عليه السلام لنجعل هذه الشعيرة أهم أولوياتنا في ذلك اليوم فعن إمامنا الرضا عليه السلام (من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرت بنا عينه في الجنة) [4] فهكذا يعلمنا أهل البيت عليهم السلام كيف نعظم شعائرنا .
إن إعطاء الشعائر أولوية في حياتنا وقيمة في نفوسنا وإعلاء شأنها ومكانتها في المجتمع هو ما تعنيه الآية من تعظيم الشعائر ، والذي به تتمكن الشعائر من اداء دورها وصنع تأثيراتها في عمق الكيان الجمعي للمجتمع وروحه .