قيم النهضة الحسينية.. فلسفة البقاء وثقافة الخلود. أم البنين نموذجاً
إن أعظم صفة تجعل من القرآن الكريم هادياً وبشيراً هو قدرته على تقريب الإنسان إلى الحقائق الكونية بشكل تجعله يلامسها ويحس بها، ثم يندفع للتفاعل معها، وينفذها في واقعه وحياته.
إن آيات الذكر تسقط الحجب الكثيرة والسميكة التي تفصل الإنسان عن سائر الخليقة واحداً فآخر، حتى يكتشف بالتالي سنن الله سبحانه وتعالى الحاكمة في الأرض والحياة.
بيد أن المشكلة الرئيسة التي تكمن في طريق معرفة مجموع الحقائق الحاكمة هي أن الإنسان عادة ما يلحظ الحقائق القريبة والظاهرة ويجهل ويغفل أو يذهل أو يتناسى الحقائق البعيدة والغائبة، على الرغم من كون بعض هذه السنن لها دور أساسي في رسم ملامح المستقبل ووضوح المسيرة، إذ أن معرفة بداية الطريق ليست مسألة شائكة لأن المهم هو أن يسير الإنسان برؤيته الأصيلة لآخر المطاف . [1]
وهذا بالضبط ما تقوم بفعله القيم والمبادئ والبصائر القرآنية، فبقدر ما يتعرف الإنسان ويعي حقائق الدين يخط طريقه بناءاً على فلسفة تنظر للنتائج والغايات والأهداف، وأهم ما يجعل الإنسان قادراً على معرفة الحياة وبناء المواقف الصحيحة من أحداثها هي قيم الحرية والكرامة لأنها تصحح طريق الإنسان إذا تنكب عن الحق، أما من لا يشعر بالحرية والكرامة فلا يمكن أن يصحح مسيرة حياته، وهذا ما نستفيده من أحداث كربلاء التي غربلت أصحاب الضمائر والأحرار لتخرج أؤلئك الذين أخطئوا طريق الحق من الزيغ والضلال وتعيدهم لمعسكر الحق والدين والقرآن والقيم الحقة، إلى معسكر سيد شباب أهل الجنة.
والحر بن يزيد الرياحي قائد جيش بن زياد هو أحد النماذج الذين تشربوا بقيم الحرية والكرامة ولا يمكنه أن يحيد عن ضميره وعما تدعوه إليه تلك القيم النبيلة، يقول الحر: لما وجهني عبيد الله إليك «للحسين » خرجت من القصر فنوديت من خلفي: أبشر يا حر بخير، فالتفت فلم أر أحداً، فقلت: والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين ، وما أحدث نفسي بإتباعك.
فقال الحسين : لقد أصبت أجراً وخيراً.
فلما قتل الحر رحمه الله، احتمله أصحاب الحسين حتى وضعوه بين يدي الحسين وبه رمق، فجعل الحسين يمسح عن وجهه ويقول: أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا، وأنت الحر في الآخرة.
ورثاه علي بن الحسين عليهما السلام:
لنعم الحر حـر بني ريـــاح صبور عنـد مختلف الرمــاح
ونعم الحر إذ نادى حسينـا فجـاد بنفسـه عـند الصبـــاح
فيا ربي أضفه في جــــنان وزوجه مع الحور المـــلاح [2]
نعم الحرية والكرامة كقيمة تكون بصيرة تهدي الإنسان عند المنزلقات، ولعل ما نراه من حرب ضد نهضة الحسين في عصرنا هذا يكمن أحد أسبابه في فقدان هذه القيم لدى من ينتقدون الشعائر أو يخطئون من قاموا بالنهضة، إذ من الطبيعي أن من تربى على العبودية وتشرب الذل والخضوع واستسلم لشهوات الدنيا ولذاتها من منصب وجاه ومسميات كاذبة تجعله عالماً لا يمكنه أن يستسيغ أن يرى من يجاهد ليخرج الناس من الذل والهوان إلى فضاء الكرامة والحرية.
إن من يشارك في بث ثقافة الخضوع والذل والخنوع والاستسلام للطغاة والمستبدين ويخدع المجتمع بتشريع طاعة الظالمين، لا يمكنه أبداً أن يقف مع الحسين ، فلا غرو أن يُخطئ ابن رسول الله وريحانته وسبطه وسيد شباب أهل الجنة إرضاء لنزوات وشهوات دنيوية زائلة.
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وأنا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
[3] .هنا تأتي أهمية الثقافة والفكر الذي يحمل على عاتقيه تحرير المجتمع والعقول والقلوب والضمائر من الاستعباد والخنوع للظالمين والمستبدين، وهذا ما فعلته السيدة الطاهرة أم البنين فاطمة الكلابية ، قبل نهضة الحسين وبعدها كما سوف نلاحظ ذلك، فهي من النساء العظيمات التي وقفن بوجه السلطة الأموية ودافعن عن قيم النهضة من خلال بث تعاليم وقيم وسيرة كربلاء وشهداءها وعلى رأسهم سيد شباب أهل الجنة.
فعندما يحدثنا التاريخ أنها كانت تأتي كل يوم للبقيع بعد استشهاد الحسين ومن معه وتندبه وتندب أولادها، لم يكن ذلك مجرد صياح وبكاء، بل كانت تحدث من في المدينة عما جرى على السبط الشهيد في كربلاء وعن عمق الانحراف الذي وصلت إليه السلطة الأموية وبُعدها عن كل قيم الإنسانية إذ أن الفاجعة لم تكن مسبوقة في كل تاريخنا البشري، ومن قام بمثل هذا القتل والذبح والنحر للأطفال والرضع والنساء فضلاً عن القادة العظماء التي لا تجود الحياة بمثلهم أبداً، إنما يدلل ذلك على عمق الوحشية والصلافة وفقدان الروح الإنسانية، فأي شخص يمكنه أن يقتل طفلاً رضيعاً في المهد لم يتجاوز عمر أحدهما الساعة، إذ قتل طفلان رضيعان للحسين ، أحدهما عبدالله الرضيع، والآخر أخوه الذي ولد يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة في كربلاء، ولم يمهله معسكر يزيد بن معاوية حتى ساعة واحدة ليتنعم بالحياة في ظل والده الحسين بن علي بن أبي طالب .
أي وحشية هذه التي يمكن أن تجعل الإنسان قاتلاً بهذه الطريقة العمياء التي لا تفرق بين الكبير والصغير، وبين المرأة والرجل، وبين الشاب والكهل، وبين العالم والقارئ للقرآن وغيره، إن ذلك لا يمكن أن يحدث من قبل جيش إلا إذا فقد كل قيم الحرية والكرامة والإنسانية، وهل يمكن أن يحدث ذلك دون تواصل عملية التضليل الأموي البشع والتي لا زالت بعض فئات مجتمعنا المعاصر متأثرة به بل ومقتنعة بتطبيقه على من يوالون خط الكرامة والنهضة الحسينية.
إن أم البنين فاطمة الكلابية ساهمت في تغيير حركة التاريخ، وبناء فلسفة الخلود والبقاء من خلال التركيز على قيم الشجاعة والنخوة والحرية والكرامة ونصرة المظلوم والنهضة على الظالم، ومن خلال ترسيخ تلك القيم في قادة النهضة الحسينية بدءاً من العباس بن علي عليهما السلام وأولادها، أو أحفادها، وما بثته من علومها في أروقة المدينة المنورة التي كانت تغلي وتتأهب للنهضة كما حدث في وقعة الحرة، فقد كان لزينب وأم البنين عليهما السلام والإمام زين العابدين دوراً بارزاً في نهضة صحابة رسول الله في المدينة سنة 63 للهجرة عندما خلع الصحابة يزيد بن معاوية، الأمر الذي تسبب بوقعة الحرة التي استشهد فيها الكثير من الصحابة من الأنصار والمهاجرين وأبناءهم.
بل إن ابن عبدالله بن الزبير استفاد كثيراً من النقمة التي خلقتها النهضة الحسينية وإعلامها في ثورته على يزيد بن معاوية وسيطرته على مكة المكرمة والكوفة والكثير من أراضي العراق، فلم يمكنه تحقيق ذلك لو لا أن إعلام النهضة الحسينية التي قادته زينب بنت علي عليهما السلام وأم البنين والذي عرى السلطة وكشف للأمة حقيقتها وبعدها عن الدين بل والكيد للدين والسعي لتحريف مفاهيمه وقيمه وأحكامه.