الحرية والحقوق الإنسانية أهم ما في الوجود
" لاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرك وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُراً " (5)
إن هذه الكلمات القيمة التي قالها أمير المؤمنين علي تحفز الإنسان للتفكر والتأمل في معناها فهي لا تتعدى نصف سطر لكن معناها شامل يتضمن "الحرية" و "ورفض العبودية" التي تعني أن تكون سيد قراراتك وإراداتك في حياتك و "الحقوق" التي تعتبر من الأساسيات الطبيعية في حياة الإنسان الذي كرمه الله تعالى من بين الخلائق كلها وجعلها مسخرة بين يديه ولم يجعل الإنسان مسخراً لها قال تعالى في محكم كتابه الكريم:
((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)) (70) سورة الإسراء
فهل هناك كلمات صريحة أوضح من كلام الله سبحانه..؟!!
وحيث أنه يوجد ترابط وثيق جداً بين تلك المفاهيم الحساسة المذكورة أعلاه فإن من الواجب أن يتحرر الفرد من القيود الفكرية و المادية والاجتماعية وغيرها ويتوكل على الله سبحانه وتعالى ويكون على خط الله ورسوله ويرفض الاستعباد بكل أشكاله من أي إنسان كان سواءً قريباً أم بعيداً أياً كان مركزه وعرشه في هذه الحياة الفانية ويصر على ما يريد بل يجب أن يطالب بحقوقه إن كان ممن يخضعون تحت أي سيطرة داخلية أو خارجية وهذا حق من الحقوق الإنسانية في هذا الكيان حيث لا يكون مجبوراً تحت أي ضغط على أي تصرف لا يرغب به وهذا ضمن نطاق الحرية ورفض الاستعباد وكل ذلك أيضاً يستلزم الصبر على مواجهة الفتنة والظلم وكل ما يصدر من الباطل.
وإن لهذه المعاني مثال لنا من وحي كربلاء الحسين... إنها قصة الحر الرياحي الذي أصبح حراً حينما تحرر من قيود السلطة الأموية بتغيير مسيرته وخط حياته باتخاذه الموقف البطولي الذي سجله التاريخ بانضمامه لنصرة سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين .
الحر الرياحي هذا البطل الكربلائي الذي أرسلته الحكومة اليزيدية على رأس ألف فارس كي يقاتل الإمام الحسين ومن معه لكنه الضمير الحي و الإرادة والعزيمة ووضوح الحقائق أمامه جعلوه يتحول من قائد لقتال في جبهة الباطل إلى معارض للظلم وناصر للجبهة الحسينية وما تحمله من قضية حيث أصبح مثال الإنسان المسلم المؤمن بقضية إصلاحية لا تحتمل التكذيب ولا التأويل فأمامه الحسين ابن علي وجده رسول الله وخلفه في الإنتظار يزيد ابن معاوية وابن زياد وابن سعد لعنهم الله .
لقد اختار بنفسه الإمام الحسين والإمام الحسين يمثل الطريق للجنة بل هو الجنة وترك زمرة آل أمية الذين يمثلون الشيطان والنار..
ولم يتعرض هذا الحر الشهيد لأي ضغط من قبل الإمام الحسين ليعود من حيث أتى أو لينضم إليه لكنه حينما رأى بعينيه الباطل والظلم الذي تفاجأ به وخصوصاً حينما وصل جيش عبيد الله ابن زياد إلى كربلاء بقيادة عمر ابن سعد (لعنة الله عليهم) وحين سأل ابن سعد قائد الجيش بقوله : أمقاتل أنت هذا الرجل..؟!!
فأجاب ابن سعد (لعنه الله):أي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي...
فسأله مرة ثانية فيما عرضه الإمام الحسين على ابن سعد من الخصال وقرابته من رسول الله ومكانته ومنزلته..؟؟؟
وجواب ابن سعد (لعنه الله) الذي إن دلّ على شئ فإنه يدل على أن عمر ابن سعد (لعنه الله) عبداً بين يدي ابن زياد يخاف منه ويخاف على منزلته كقائد وهذا يتضح من جوابه:
(لو كان الأمر بيدي لقبلت ولكن أميرك ابن زياد أبى ذلك)...
فرجع الحر من ابن سعد وفرائصه ترتعد فهو لم يصدق أذنيه لما قد وصلت بهم الوقاحة والجرأة لقتال سبط رسول الله سيد شباب أهل الجنة...!!!
تقول الروايات أن الحر سار نحو المشرعة مطرقاً رأسه إلى صدره متفكراً حيراناً فرآه المهاجر ابن أوس حينذاك وسأل الحر قائلاً: إنّ أمرك لمريب..؟!
وواصل قائلاً:
والله لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فما هذا الذي أراه منك ؟!
فقال له الحر :
(( إني أخير نفسي بين الجنة والنار والله لا اختار على الجنة شيئا ولو أحرقت ))
ثم مضى وقد وضع يديه على رأسه ودعا الله بهذا الدعاء:
((اللَّهُمَّ إلَيْكَ أُنِيْب فَتُبْ عَلَيَّ فَقَدْ أَرْعَبْت قُلُوْب أَوْلِيَائِك وَأَوْلاَد بِنْتُ نَبِيِّك)) وهكذا إلى أن صار قريبا من الإمام الحسين وصاح قائلاً:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله...السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ رَسُول الله...
إلى أن سقط على وجه الأرض وهو يقول: سيدي أبا عبد الله أدركني... فجاءه الحسين مسرعا... جلس عنده... جعل يمسح الدم والتراب عنه وهو يقول للحر:
(( ما أخطأت أمك إذ سمّتك حرا ))
ولعل أمه كانت تتوسم في ابنها هذه الروح الحرة فكان كما قال الحسين :
(( أنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة ))
ولهذا فإن في قصة الحر الرياحي هذا الفدائي الحسيني الكثير من المعاني والمفاهيم العظيمة ومنها الحرية والإصرار عليها وحرية الاختيار لطريق الحق ورفض العبودية وعدم الانصياع للأوامر اليزيدية الباطلة لأجل مصلحتها الدنيوية...
وإن وقوف هذا النصير للقضية الحسينية بجانب الحق ومطالبته ودفاعه عن الحق الذي حارب من أجله الإمام الحسين والذي هو من أجل الإصلاح في أمة جده رسول الله وإن كل تلك المفاهيم وما ذكر آنفاً حول الحرية ورفض العبودية والجهاد لنيل الحقوق المطلوبة إذا وجدت في شخصية أي شخص فإنها تكسبه العزة والكرامة وتجعله خالداً بمواقفه وسلوكياته العظيمة وهكذا هم العظماء.
إن أي روح مؤمنة يكون وقودها وزاد مسيرتها النور الحسيني وشعاره الخالد " هيهات منا الذلة " سوف تنال العزة والكرامة والشرف الذي يرفع الهامات ويحصن الأمة من كيد الأعداء ويجعلها بإذن الله منتصرة على الظالمين والطواغيت في كل زمان ومكان ... بل ويجعل لها مهابة خاصة لا تنبغي لأحد من الخلق وليكن مع هذا كل يوم "عاشوراء" ولتكن كل أرض "كربلاء"...
الشعائر الحسينية مستمرة في طريقها في كل أرض وفي كل يوم عبر تلك الشخصيات المعطاءة التي بنيت على حب الله وأهل بيت الرّسالة آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) حيث انجذبت إلى الحق ببركتها .
وبين عين الحسين المقدرة وبين أكف العباس المقطعة تكمن أسرار الشعائر والثورة والنهضة الحسينية وإشعاعهم يلوح في العالم كضوء الشمس فرحم الله أحبابنا الحسينيون الماضون وبارك الله في الباقون وحفظ الله السائرون على خطى الحسين فإنهم بعين الله .
جعلنا الله وإياكم منهم ومن الدّاخلين إلى جنة الخلد من البوابة الحسينية مستضيئين في دروبنا بالنُّور الحسيني الخالد...