الفعل الثقافي للشعائر (3-3) ج1
الشعائر الإسلامية تأتي على نحوين احدهما عام والآخر خاص ، فهناك شعائر عامة يشترك في ممارستها المسلمون كافة بمختلف طوائفهم ومذاهبهم ، كالحج وصلاة الجماعة والجمعة وصوم شهر رمضان ، وغيرها ، وهناك شعائر خاصة تأتي بها مجموعة خاصة من المسلمين دون غيرهم من الطوائف والمذاهب الإسلامية ، كحلقات الذكر التي يحييها الصوفيون فهي تعد احد شعائرهم الدينية الخاصة بهم دون غيرهم من المذاهب .
شيعة أهل البيت عليهم السلام ووفقا لتوجيهات أئمتهم عليهم السلام امتازوا بشعائر يقيمونها ويمارسونها دون غيرهم من المذاهب الإسلامية ، وعلى رأس هذه الشعائر ، الشعائر الحسينية ، وكذا الشهادة الثالثة والصلاة على النبي والآل وغيرها ، فهذه الشعائر تعد عنوانا مائزا للمجتمع المؤمن (الشيعة) عن غيره من المجتمعات والطوائف ، فمثلا تجد (عشرة عاشوراء (1-10 محرم) هي اكثر اللحظات كثافة وجدانية ومعنوية في حياة الجماعة الإسلامية الشيعية ، حيث تعيش أعضاؤها خبرات روحية عميقة ، ويجددون معنى انتمائهم إلى الجماعة ويوطدون عرى تضامنهم ) [1] .
الشعائر في طبيعة التكوين النفسي للمجتمع بينهما علاقة شبه عضوية ،بل اصبحت الشعائر ( جزءا لا يتجزأ عن بناء شخصيتهم ) [2] ، فهناك علاقة وشيجة بين الشعائر والشعور المجتمعي إلى مستوى أصبحت فيه الشعائر جزءا من الذات الجمعية للمجتمع ، ويعد المساس بها مساسا بالذات ، بحيث أي تهديد للشعائر سيفسره المجتمع وبتلقائية على انه تهديد وجودي لذاته .
فهم هذه العلاقة يساعدنا كثيرا في تفهم تلك الصراعات وشدة الاحترابات الناشئة جراء المساس بالشعائر أو حتى التشكيك فيها ، لأن المجتمع حينها سيشعر باستفزاز شديد يدفعه تلقائيا للوثوب دفاعا عن شعائره الذي هو دفاع عن الذات في حقيقته ، كما وفهم هذه العلاقة يجعلنا نعي أن ممارسة المجتمع لشعائره والتي تمثل هويته هو في حقيقته تعبير عن الذات .
وهذا التعبير عن الذات اذا ما لاقى قمعا من طرف فإن أُوار الصراع سوف يشتد لا محالة كما هو عليه بعض الأنظمة الاستبدادية ذات التفكير الأحادي حين تريد أن تفرض ثقافتها وهويتها على باقي مكونات المجتمع ، فتسعى لتحقيق هذا الهدف إلى طمس معالم الهوية لهذا المجتمع أو ذاك المكون عبر وسائل عده منها منع المجتمع من إقامة شعائره ، وبناء مساجده أو حتى إقامة صلاة جماعته ، كل ذلك أملا ورغبة في تذويب المجتمع أو تغييب هويته لصالح هوية الجهة المتسلطة .
هذا الشكل من الصراع ضد الهوية والشعائر الشيعية عاشه الشيعة منذ أوائل الدولة الأموية وحتى عصرنا الحاضر ، فلقد مورست شتى سياسات القمع والترهيب ضد الشيعة لمنعهم من إقامة شعائرهم ، وليس ادل مما سجله التاريخ حول شعيرة زيارة الإمام الحسين عليه السلام فلقد اشترك الأمويون الضالعون في دم الحسين عليه السلام والعباسيون البريؤون من دمه في هذا التنكيل والتضييق ، فاذا كنا سنفهم موقف الدولة الأموية في المنع لكون الزيارة بمثابة موقف إدانة لجريمتها ، فلماذا تمنع الدولة العباسية ذلك ؟ أليس لأن هذه الشعيرة عنوان واضح لطائفة ليست على وفاق مع الدولة العباسية ؟ .
التاريخ رصد لنا سيرة القمع التي مارستها الدول القمعية تجاه الشيعة في إحياء شعائرهم ، ففي الدولة العباسية مثلا امر هارون العباسي (148- 193 هـ )بهدم حرم الإمام الحسين ومنع زيارته ، إذ ( لما كانت سنة 193 هـ ضيق هارون الرشيد الخناق على زائري القبر وقطع شجرة السدرة التي كانت عنده وكرب موضع القبر ، وهدم الأبنية التي كانت تحيط بتلك الأضرحة المقدسة ، وزرعها ) [3] وكان المتوكل العباسي (205- 247 هـ) من ابرز من قام بمحاربة شعيرة زيارة الحسين عليه السلام من سلاطين الجور العباسيين، فقد قام بالتنكيل بزوار الإمام عليه السلام من قتل وسجن وضرائب وما شابه وقام بهدم القبر اربع مرات تقريبا وذلك في سنة (232 و 236 و 237 و 247 هـ ) بل وحرثه فقد ( انفذ قائدا في جمع كثير من الجند وأمر مناديا ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره ) [4] و هكذا ارسل جيشا إلى كربلاء لهدم القبر المطهر ومخره وحرثه ولقتل من يجدون بها من آل أبي طالب وشيعتهم [5] ، و جعل نقاط عسكرية حول منطقة القبر لمنع الزوار فقد ( وكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، فلا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه ) [6] ، وحتى نعرف ظروف تلك المرحلة اكثر ننقل هنا تجربة محمد الأشناني في زيارته الإمام عليه السلام قائلا ( بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفا ، عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد نامو حتى أتينا القبر ) [7] ولكن الشيعة أمام هذه المواجهات كان موقفهم التحدي والمقاومة وهذا ما يفسر تكرار عمليات الهدم للقبر الشريف لان الشيعة كانت تعيد تعميره مجددا متحدين قرار السلطات وإجراءاتها القمعية ، فإن ( دلت أعمال الهدم المتكرر هذه وما يتبعها من تعمير سريع للقبر على شيء ، فإنما يدل على انحراف ظاهر في عقلية المتوكل من جهة ، ومدى القوة في عقيدة الرأي العام المسلم الذي كان يأبى يومذاك إلا أن يخلد الحسين الشهيد عليه السلام ، ويعمر ضريحه ويقدس تربته ، رغم جميع ما كان يدبره الغاشمون من اضطهاد وتنكيل ) [8] .
التاريخ إذن رصد لنا كيف كانت شعيرة زيارة الإمام الحسين عليه السلام تمثل قلقا على مر التاريخ للسلطات الجائرة الأموية والعباسية بل وغيرها، تدفع بهذه السلطات لمنع شيعة الحسين ومحبيه من الزيارة وبشتى وسائل القهر والقمع والتسلط ، لذا حري بنا أن نتعرف على منهجية تعامل أهل البيت عليهم السلام مع هذا الواقع المرير ؟ وكيف استطاعوا أن يبقوا شعلة الشعائر مستمرة إلى يومنا الحاضر ؟ .
في البدء لابد من التأكيد على حقيقة وهي أن أهل البيت عليهم السلام حولوا الوجود الشيعي إلى كيان قائم بذاته فهم الذين أسسوا وهندسوا نشوء هذا الكيان ورعوا نموه وبقاءه وخططوا لاستمراريته ، وكان من اهم الوسائل التي اعتمدوها في بناء هذا الكيان وتشكيل هويته هي إرساء جملة شعائر لتكون عنوانا لهذا الكيان ، وتحمي هويته أمام المحيط الاجتماعي الكبير و المختلف وأمام قسوة الظروف السياسية والأمنية التي تحيط بالواقع الشيعي والهوية الموالية لأهل البيت عليهم السلام ولذا جاءت أهمية المواسم العاشورائية (من إسهامها الفاعل في إعادة إنتاج الوعي الجماعي واللاشعور الجماعي وذلك عن طريق التكرار الدوري للخبرات الوجدانية .... وهكذا تسهم الاحتفالات العاشورائية الدورية في صيانة الهوية الجماعية الدينية – السياسية وتوطيد كيان الزمرة المرجعية ) [9] .
إن إحاطة أهل البيت عليهم السلام بأهمية الشعائر وما يمكن أن تقوم به من دور في بناء المجتمع وحفظه وحمايته هو الذي دفع بأهل البيت عليهم السلام أن يتعاملوا مع الشعائر الخاصة بشكل استثنائي ، دافعين شيعتهم لتحدي كل الظروف التي تحول دون إحيائهم لشعائرهم ، حرصا على إرساء هذه الشعائر ، والحفاظ على الهوية الثقافية لهذا الكيان الذي خططوا له أن يستمر ليتسع ويحمل الأمانة إلى الأجيال التالية .
في إطلالة سريعة على بعض الروايات الصادرة من أهل بيت العصمة عليهم السلام يمكننا فهم الواقع الذي عاشه الأئمة عليهم السلام وشيعتهم تلك الفترة ، كما ويطلعنا على مدى إصرار أهل البيت عليهم السلام على إحياء الشعائر واهتمامهم بإقامتها ، برغم الظروف القاسية ، وذلك لكونها تشكل رهانا حقيقيا ومهما لبقاء هذا الكيان وهذا النهج ، ففي رواية طويلة عن إمامنا الباقر عليه السلام يقول فيها ( ... ثم ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ، ويأمر من في داره ممن لا يتقيه بالبكاء عليه ، ويقيم في داره المصيبة ...) [10] هذه الرواية تنقل لنا الواقع الأمني الذي كان يحيط بإقامة الشعائر الحسينية ، بحيث قد تجد في الدار الواحدة من تخشاه عند إقامتك الشعيرة ، ومع هذا كان هناك إصرار واضح من الإمام الباقر عليه السلام لدعوة شيعته على إقامة هذه الشعير رغم الأخطار الأمنية المحدقة ، وهذا الإصرار يشعر بأهمية بالغة لشعيرة ندب الإمام عليه السلام في استمرارية هذا النهج وهذا الكيان ، لان الشعائر هي عنوان ثقافي مائز لهوية المجتمعات تحفظهم من الذوبان في الثقافات الأخرى ، من هنا لحظ علماء الأنثروبولوجيا أن ( مراسيم العزاء الحسيني كانت قد ارتبطت منذ البدء بتاريخ المعارضة السياسية في الإسلام ، وتحولت في أحيان كثيرة إلى شكل من أشكال الرفض والاحتجاج ضد الرؤية الأيديولوجية الرسمية ، وتحولت إلى ضرب من ضروب المقاومة العلنية تارة ، والخفية طورا ، في ظروف القمع والاضطهاد ) [11] .
هذا الحرص عند إمامنا الباقر عليه السلام ذاته نجده عند الإمام الصادق عليه السلام حين يحث شيعته على إحياء شعيرة زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، رغم ما كان يلابس زيارته من ظروف غاية في الخطورة إلى حد القتل والسجن فقد (كان يأمر حكام الجور والظالمون بقطع أيدي زوار الإمام الحسين عليه السلام وأرجلهم ) [12] ، وما ذلك إلا حثا للشيعة على تحدي كافة الظروف في سبيل إحياء الشعائر وإرسائها وتعظيمها ، لأنها السور الثقافي الذي يحمي المجتمع المؤمن من الذوبان في الثقافات المحيطة به ، ولأنها دعامة لحفظ الكيان وبقائه في ظروف التداخل والتواصل الاجتماعي الطبيعية ،ولأن (الطقوس الدينية تؤدي وظيفة أداة من أدوات التعبير عن الهوية ووسيلة من وسائل الدفاع عنها ) [13] ، ففي حديث لإمامنا الصادق عليه السلام يخاطب فيه أحد أصحابه ( يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين لخوف ) [14] ، فهنا إصرار واضح من الإمام على دفع الشيعة لتحدي كافة الظروف الأمنية وان استلزم تقديم التضحيات تلو التضحيات ( ففي المسير إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام لم يقل الأئمة عليهم السلام بوجوب وجود الاستطاعة والأمان والراحة وغير ذلك ، بل حثوا على زيارة الإمام الحسين عليه السلام حتى مع وجود الخطر والخوف ) [15] كل ذلك في سبيل إحياء الشعائر وإبقائها، إذ ببقائها يبقى هذا الدين الذي بلغه الرسول واهل بيته الأطهار عليه وعليهم الصلاة والسلام .
هكذا تعاطى أئمتنا عليهم السلام مع موضوع الشعائر، وهكذا تحدوا كل أساليب القهر التي سلطها الطغاة وسلاطين الجور على شيعتهم ونهجهم ، وهكذا قاوموا كل محاولات التغييب وطمس الهوية ، وهكذا استطاعوا أن يحافظوا على بقاء واستمرارية هذا الكيان الذي هندسوا له وشيدوه ، كل ذلك عبر المزيد من تعزيز الشعائر في المجتمع المؤمن والحث على تعظيمها ، لتبقى شعلة هذا الحق والكيان الحاضن له مستمرة على مدى الدهور والأزمان ،فبالشعائر استطاعوا أن يأخذوا سفينة التشيع من لجج الأخطار إلى بر الأمان، فكان للشعائر الدور البارز والمهم في الحفاظ على الهوية وبقائها واستمرارها إلى وقتنا الحاضر برغم التحديات العصيبة التي مر بها الشيعة والتشيع .