جرأة التغيير ... شبكة مصالح ومسارات
تتعدد نداءات المصلحين في أرض الله - تعالى - من عباده الصالحين، الذين اصطفاهم الله بالوعي - المفسدين والضالين المضلين، عند من لم يصلوا لإدراك حقيقة الوعي ذات الطبيعة النورانية والعقلانية المدركة غير المستعصية على الفهم، الخاضعة لمسارات بحث الإنسان عنها، وانفتاحه على رحابة عالم العقائد والآراء المتنوعة، بعيداً عن مسبقاته الذهنية، الموروثة والمكتسبة من واقع التقليد والتلقين الأعمى -، المطالبين بالجرأة والداعين لممارستها الفاعلة فوق أرض الواقع.
والهدف في نهاية المطاف، من وراء كل تلك النداءات الثقافية الثورية ذات الطبيعة التغييرية، هو تنوير عقول جماهير الأمة، المغيبة خلف القداسات الزائفة، عن حقها في النقد والوعي، عبر الحديث في المسكوت عنه، مما يسبب حضوره - أي ذلك المسكوت عنه - وبقاؤه في جسد الأمة، الكثير من مآزقنا الإسلامية الفكرية، المنتجة لكل ذلك التخلف وتلك الإخفاقات الواقعية المستمرة، المستشرية في (الحراك الإسلامي من أجل الإصلاح والتغيير الهادف لخلاص ورقي الأمة)، منذ القدم. مما يصعب فعلاً، الخوض والنقاش والحديث فيه وحوله علانية، بل كذلك أيضاً واقعاً حتى في الخفاء والسر، المختبئ خلف الأبواب الموصدة، الذي يخلقه واقع التشدد والجهل، المحتمي بالقداسات الدينية الزائفة.
لكن الكثيرين من المنادين بتلك الجرأة، غالباً ما لا يكونون من المتبنين لهذا المشروع التغييري الحساس واقعاً، المفعلين له والعاملين به، خارج حدوده الضيقة المخنوقة، فوق أرض الواقع المر والصعب.
وقد تحدثت أنا بنفسي فيما سبق عن لغة الترميز، وعن غموض خطاب الكتاب والمثقفين التنويريين، وعدم جرأتهم داخل الدائرة الدينية المحلية المتزمتة، على طرح القضايا الجذرية المصيرية الحساسة. متمنياً من خلال ذلك الحديث كله، وجود المزيد من الوضوح والصراحة والجرأة لدى البعض منا، في ساحة توعية جماهير الأمة، بما يخدم واقعها وحاضرها ومستقبلها ومصيرها، حتى لو أدى ذلك لكسر بعض الثوابت الزائفة الراسخة. رغم أنني في الواقع من جهة أخرى، أعذر الغموض والترميز والضبابية لدى بعض المصلحين وبعض المثقفين، لمقتضياتها الواقعية، ولحاجة أفراد العاملين في ساحة التوعية، والمنشغلين بها، بل وكل المجتمع أحياناً، لذلك. ولهذا السبب، وإدراكاً مني لما فات، فأنا لست خارج تلك الدائرة أو المنظومة، من الغموض والمداهنة والمجاملة الاجتماعية، المفروضة على الواعين بمأزق الأمة والمجتمع، التي يتبناها الآخرون. فلماذا تلك المداهنة؟!.
لقد جرب بعض رجال الدين المخلصين، وبعض الكتاب والمثقفين الواعين، كسر النمط المألوف من التفكير، فخرقوا حالة الجمود التقليدية وحواجزها، بأسئلة وأفكار لا نمطية وغير مألوفة، لم تعتد جماهير الأمة على جرأة طرحها. لكنهم، عادوا من رحلة المجازفة والنضال تلك خائبين، واختاروا فيما بعد، الصمت، بعد اختبار حواجز الوعي الصلبة، وردات فعل المجتمع المقصود بالتغيير والتنوير، أو ربما قرروا أو قرر بعضهم على الأقل، بعد ردات الفعل السلبية القوية والعنيفة التي أحاطت بهم، الصمت برهة من الوقت، لاستعادة أنفاسهم كمحاربين عنيدين، ربما لإعطاء فرصة لتهيئة المجتمع، لمعالجة رواسبه العميقة وما بقي منها، في الأيام المقبلة.
وهنا فليس غريبا طبعاً، أن يصاب المرء بالإحباط أو تقطع أنفاسه برهة من الوقت، فيصمت فترة وجيزة ليستعيد قوته، ثم يعود فيما بعد للنضال من جديد. بل قد يصاب جراء ردات فعل المجتمع السلبية العنيفة والقوية، بإحباط يوقفه عن حراكه وعن سلوك مسارات التنوير. كما حدث لبعض الكتاب والمثقفين بعد فورة الحماس. التي انتهت فيما بعد، إلى ذبول حراكهم التوعوي، ثم موت ذلك الحراك.
ولقد سمعت أن بعض العجائز في منطقتي، اتهمت بعض المصلحين التغييرين البارزين بالخرف، في حين قام بعض أشباه المثقفين بالطعن في عقائد بعض الكتاب والمثقفين، تمهيداً لطردهم من ساحة الرحمة والعدالة الإلهية، التي يحلمون باحتكارها لأنفسهم ولمن سيهبونه صكوك الغفران ويجوزون الاقتداء به. وطبيعي أن يحصل ذلك، عندما تضيق الآنية الصغيرة عن استيعاب الآنية الكبيرة، والعقول الضيقة عن استيعاب العقول الواسعة المتبحرة والمتحررة من واقع الجمود المأثوم.
وهنا، يبدو المثقفون طالبي خلاص لأنفسهم، ومخلصين لمجتمعاتهم في نفس الوقت. فهم طالبوا خلاص من ضيق أفق ومحدودية فهم وظلم مجتمعاتهم لهم، ومخلصين لها من ذلك كله في الوقت نفسه. وهذا هو المأزق الحقيقي الذي يعيق حراك تحرر الأمة.
قد يبدو الحل هنا، ماثلاً مرة أخرى، في المأزق نفسه، أي في جرأة طرح المواضيع الحساسة وأطروحات التوعية. لكن كيف سيتم ذلك؟! وقد جرب البعض تلك الجرأة، ثم صمتوا وتوقفوا، بسبب الواقع المر والصعب؟!.
لا شك هنا، أنها عملية لهاث حقيقية مستمرة. تهدف في النهاية لنشر الحقيقة المتوارية عن عامة أبناء الأمة في زوايا خفية، من عقول بعض الواعين المتنورين من أبناء الأمة. مخفية هناك في دهاليز العقول عن أعين الكثير من الجلادين من الجماهير الرافضة للحقيقة، بسبب موروثاتها الخاطئة، وبسبب التخبط والعاطفة والجهل.
وهنا، ربما لابد لتجاوز حالة صمود الجهل وتخدير العقول، في وجه موجات الوعي، من عمليات ثقافية تنويرية انتحارية، قد يخسر بسببها المصلح نفسه ومصالحه وموقعيته، وربما قرابته وأهله ومن يلوذون به. كما حصل لبعض المصلحين الكبار من أبناء المدرسة الدينية في هذا العصر الراهن، وربما مثله في كثيرٍ غيره من العصور السابقة. لكن، ربما من الطبيعي أيضاً، أن يكون أكثر المثقفين المحليين، بحكم مصالحهم وذكائهم وعمق المأزق المتأصل في مجتمعاتهم، الدافع لعداء ورفض ونبذ الآخر، الخارج عن حالة القطيع، وتهميشه وإلغائه، آخر من قد يقدمون على هكذا خطوات أو عمليات جنونية انتحارية.
وربما نكون، من جهة أخرى، بحاجة عوضاً عن ذلك الصدام الحاسم المشتت، الخطير وغير المضمون، لحالة إجماع نخبوية، ترفع صوت المثقفين عالياً دفعة واحدة بطريقة مدروسة، في وجه الجهل والسبات، في حالة فريدة من نوعها طبعاً، ربما من الصعب أن تحدث واقعاً، أو ربما أن عالمنا العربي والإسلامي لم يعودنا على تصور إمكانية الحصول عليها وحدوثها، خارج دائرة أحلامنا وأمنياتنا الدائمة.
أو قد يخدم الوعي والصحوة المطلوبة والمنشودة والمستهدفة، رجال في بدايات حالة الصحوة، يثيرون جلبة يفزعون بها العقول الساكنة والنائمة والمخدرة، كما حصل في بعض الأوقات.
أو قد نكون بحاجة لرجالٍ – من الجن، أو من المريخ ربما - ممن لا تتناقض مصالحهم مع ممارسة دور التوعية والتنوير والدفع نحو الصحوة. يقومون بدور إيقاظ الأمة من داخل الأمة - إن أمكن - أو من خارجها - وهو بالتأكيد ممكن -.
ويظل الواقع المتمثل في اللهاث المستمر خلف التغيير والصحوة والتنوير، هو واقعنا وقدرنا الذي سيستمر في الفترة غير القصيرة القادمة، إن لم يحدث ما يغير تلك المعادلة المستمرة حتى اليوم.
وأعلم أن البعض، سيقول لي هنا: "يا سيدي، دع عنك هذا الحديث الطويل، المشحون بالتأملات الثقافية والفكرية، التي لا تغني ولا تسمن من جوع. وتعال معنا نتكلم في الأهم. فكلنا يعلم أن القرار السياسي الحاسم والجريء، هو القادر على تغيير الكثير من مآزق هذا الواقع الصعب والمر".
وأنا أعلم بالطبع جيداً، أن السياسة هي عنصر حسمٍ مهم، يتصدر معادلات التغيير في مختلف المجتمعات البشرية، وهي في واقعنا، صنو القداسة، التي تطوق المأزق وتحتضنه وتدفعه بقوة للاستمرار مع خط الزمن الصاعد. لكنني سأقول لهؤلاء الأعزاء كلمة رأس أتمنى أن تنفذ إلى رؤوسهم وأدمغتهم بسرعة، وهي: "أعذروني رجاءً أيها الأحبة، فلست أملك سوى ما ملكته جدتي (رح) من السلطات السياسية. وفوق هذا، فإنني مقتنعٌ تماماً أيضاً، أن أكثر رجال السياسة، الذين تقودهم معادلات مصالح خاصة، مهما تحدثنا لهم، فلن ينظروا لهذا العالم الذي نعيش فيه، من خلال مقال يكتب هنا أو آخر ينشر هناك، ولن يصغوا لشيء ربما غالباً ما سيناقض مصالحهم الخاصة. لذا، فدعونا بعيداً عن تلك السياسة وتشعباتها وأمراضها وتعقيداتها، ودعونا بعيداً عن أن نتعب أنفسنا هناك إن لم نكن أهلاً لذلك، لنسلك مسلكاً آخر، نخوض من خلاله في تشعبات قضية وعي وثقافة وفاعلية الجمهور، القادر على موازنة تلك المعادلات السياسية الصعبة الحاضرة في أذهان الساسة".
وهنا في الأخير، فسأسأل تطلعاً لمستقبلٍ أفضل: (هل من رجل جرئ، قادرٍ على تعليق جرس الوعي، في رقبة الأمة، ليحدث التغيير؟!!!).
وسأجيب بعد هذا، بـ: "ربما (نعم)، هناك من يستطيع أو من سيستطيع ذلك". لكن ربما أيضاً سيظل الجزء المهم أو الأهم هنا في هذه المقالة، هو التأملات الفكرية في حال الأمة ... والاعتراف والإقرار في النهاية بالمأزق الذي تعيشه ويعيشه مثقفوها ... وتشخيصه وبيانه ... تمهيداً لمعالجته فكرياً فيما بعد ... فذلك (الإقرار) بالتأكيد ضروري ومهم لانبثاق الحل المطلوب فوق أرض الواقع فيما بعد ... وهذا هو أهم ما أردت إثارته وتسليط بعض الضوء عليه هنا ... أو منح بعض الضوء من خلاله ... والسلام.