الفعل الثقافي للشعائر (3-3) ج2
لقد تحدث علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرهم حول دور الشعائر في الحفاظ على هوية الأقليات أمام طغيان ثقافة الأكثرية وهيمنتها واستيلائها ، وقد ألمح غلنر "Geliner" (1925 – 1995 م ) إلى هذه الحقيقة عندما قال (إن الإسلام يختلف عن بقية الأديان في أن الشعائر والاحتفالات والرموز وكارزميات الحشود ، لا تتركز لدى الأرثوذكسية السنية التي تمثل الأكثرية ، بل لدى الفرق الإسلامية التي تتمايز بها عن تلك الأكثرية ) ، وهذه الحقيقة تعيشها الهويات التي تشعر بخطر التغييب والطمس ، حيث أن الشعائر تمثل لهم ملاذا يحميهم أمام طغيان الآخر الثقافي وتهديده .
هذا الاهتمام الواضح من الأقليات في إحياء وممارسة شعائرها إنما يعبر عن حالة الاحتماء والتمترس بالشعائر أمام ما تواجهه هذه الأقليات من تهديدات وأخطار تحدق بهويتها ، ولذا تجد هذه الأقليات كلما عمل الطرف الآخر على طمس هويتها ازداد اهتمامها بشعائرها كرد فعل طبيعي واحتمائي بالشعائر ، وبتعبير المرجع الديني الشيخ بشير النجفي دام ظله : ( حيث أن المحاربين والمعارضين للشعائر الحسينية ، طوائف عديدة ، ويستخدمون وسائل كثيرة ،وهجومهم بقوة ، فلا بد أن يكون رد فعلنا اقوى من فعلهم ، ونحافظ على الشعائر الحسينية ونقيمها ونشجع عليها ) [1] ، هذه العبارات تفسر لنا ردات الفعل الشعبية أمام محاولات وأد الشعائر وتوهينها ، والتشكيك فيها ومحاربتها .
الشعائر بالنسبة للشعوب المقهورة والأقليات التي تواجه خطر طمس هويتها هو بمثابة سلاح مقاومة ، تقاوم به عمليات التذويب ومحاولات الطمس والتغييب لهويتها ، وهذا ما يجعل الشعوب الواقعة تحت نير أنظمة تصادر حقوقها وتقمع حرياتها في التعبير عن هويتها ، وتعمد لطمس هويتها وتغييبها ، في أمس الحاجة وبدرجة اكبر من غيرها إلى التمسك بشعائرها والكفاح من اجل الحفاظ عليها والاستماتة في سبيل إحيائها ، فإن في ذلك حفظ لذاتها ووجودها ، هكذا كانت منهجية أهل البيت عليهم السلام في مواجهة ما يهدد الهوية من أخطار .
التاريخ الحديث دوّن لنا معاناة شعب بأكمله في صراعه على هويته ، وسجل لنا كيف كانت محاولات طاغية العراق المقبور "صدام" وزمرته البعثية لطمس وتذويب هوية الشعب حين عمد وبكل ما أوتي من قوة وبطش إلى قمع الشعائر الحسينية من مواكب عزاء ، وعزاء اطويريج ، والمجالس الحسينية الحاشدة ، و"المشاية" القاصدين مشيا على أقدامهم لزيارة الإمام الحسين عليه السلام ، وغيرها من الشعائر فقد ( اضطهدوا كل المعزين الحسينيين ، بل منعوا من الذهاب إلى زيارة الحسين صلوات الله عليه مشيا على الأقدام ، وقتلوا الآلاف منهم وهم في طريقهم إلى كربلاء المقدسة ) [2] ، سوى أن هذه المحاولات باءت بالفشل فما إن سقط "صدام " ونظام قهره حتى كانت ردات الفعل الشعبية على هذا القمع مليونية ، فقد خرجت الناس في مشاركات مليونية لإحياء هذه الشعائر فور سقوطه كتعبير صارخ عن ذاتهم وهويتهم .
الدكتور "علي وتوت" الأستاذ المساعد لمادة علم الاجتماع السياسي وفي مقابلة له مع جريد الصباح وصّف لنا المشهد العراقي هذا قائلا : ( الجماعة الشيعية التي عانت في عقود عدة منع إقامة هذه الطقوس والشعائر واضطهاد القائمين عليها المشاركين فيها ، مما حدا بالجماعة الشيعية إلى إظهار ممارسة هذه الشعائر والطقوس كأول عنوان من عناوين نيلها حريتها ) [3] وهذا مشهد يعبر بكل أبعاده عن تحدي واضح لطمس الهوية ، وفي موضع آخر من المقابلة يقول (كان أول مظاهر السلوك الجمعي للجماعة الشيعية بعيد سقوط النظام الدكتاتوري ، هو أداء شعيرة السير إلى كربلاء بمناسبة أربعينية الحسين عليه السلام ، التي كانت قد صادفت مع أول أيام الخلاص من كابوس الدكتاتورية ، ولذلك توجه مئات الآلاف من الشيعة من مختلف مدن العراق إلى كربلاء مشيا على الأقدام كتعبير عن مشاعر الحرية في ممارسة الطقوس )[4] ، فهنا الدكتور يوضح لنا كيف أن ممارسة الشعائر كان السلوك الأبرز والصارخ للتعبير عن الذات والإعلان عن الهوية .
المجتمع ( يعبر عن كيانه وهويته واتجاهاته وقيمه عن طريق إقامة هذه الشعائر ) [5] ، هكذا فهم العلماء وهكذا ادرك الساسة موقعية الشعائر بالنسبة للشعوب المقهورة ، وما يمثله ممارستها من تعبير عن الذات وإعلان عن الهوية ، إلا أننا نتعجب من موقف البعض خاصة أولئك الذين يرفعون شعار بناء الطائفة والدفاع عن حقوقها ، نتعجب من موقفهم تجاه الشعائر ، فبين عدم اكتراث واهتمام وبين عدم رعاية واحتضان وبين تشكيك بها وعدم إيمان ، يدفعهم إلى هذه المواقف تصور واهم بأن اهتمام مجتمعنا ومبالغته في إحياء وممارسة الشعائر يوغل في فصل مجتمعنا عن باقي مكونات الوطن !! وأن إصرار المجتمع في التعبير عن هويته الخاصة بممارسته هذه الشعائر هو بمثابة خلق لحواجز نفسية وتابوهات تعيق عملية التواصل الاجتماعي مع باقي الأطياف والمكونات ، وتشكل بدورها عائقا يحول دون انخراط مجتمعنا في البحر الاجتماعي العريض للوطن !!
هذه جملة تبريرات يسوقونها هنا وهناك تفسر موقفهم تجاه الشعائر الخاصة وتحديدا الشعائر الحسينية ، فتراهم تارة يوهنون عزائم الشباب عن إحياء وممارسة هذه الشعائر ، وتارة يشككون في بعض الشعائر المزعجة لذائقتهم وأمزجتهم ، وثالثة يدعون للتخفيف من حجم هذه الممارسات كي لا تثير الطرف الآخر الذي نسعى لخطب وده ! وغيرها من المواقف النابعة من تلك الأوهام والتصورات الواهمة .
هذا الصنف من الناس علاوة على ما يحملونه من تصورات واهمة وجهل بموقعية الشعائر في البناء الاجتماعي والشعور الجمعي ، ودورها في صراع الهويات وأهميتها بالنسبة للشعوب المهددة ثقافيا وعقديا بطمس هويتها فهم لاشك انهم لم يتشبعوا بثقافة أهل البيت الأصيلة ومنهجيتهم في إحياء الشعائر ، وكيف اهل البيت عليهم السلام يدفعون شيعتهم لإحياء هذه الشعائر حتى لو أثارت غيظا أو شكلت استفزازا للأطياف الأخرى فعن إمامنا الصادق عليه السلام وهو يدعو لزوار الإمام الحسين عليه السلام ( ... وإجابة منهم لأمرنا وغيظا ادخلوه على عدونا ...)[6] ، لأن من لا يحترم ثقافتك وهويتك لا يستحق أن توليه أي رعاية واهتمام ،فإنك حين تحيي شعائرك إنما تمارس حريتك و تعبر عن هويتك فمن لا يرتضيه ذلك ليس حريا بالاحترام والاعتناء . وفي موضع آخر من الدعاء يقول الإمام عليه السلام (... اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافا عليهم ...)[7] ، أي تحديا لهم ولمواقفهم السلبية اتجاه شعائرنا وثقافتنا، فلا ولا كرامة لمثل هؤلاء فضلا عن أن نهتم بخطب ودهم والتقرب اليهم .
إن إحياء وتعظيم الشعائر هي سلاحنا لمواجهة أخطار الانفتاح الثقافي ، كما أن تعظيم الشعائر سلاحنا لمقاومة محاولات طمس الهوية وتذويبها لصالح هويات أخرى تسعى للهيمنة .