الإمامة والقيادة السياسية
يقرر العقل والشرع أن لا سيادة لأحد من البشر على نفسه نظراً لافتقاره إلى الباري جلَّ وعلا في وجوده وبقائه ومملوكيته وعبوديته له سبحانه، وبالتالي فهو متصف بالضعف والمحدودية.
وإذا كان كذلك فمن باب الأولى أن لا يكون سيادة للبشر على بعضهم البعض كلية كانت أو جزئية، وعليه فإن أي نوع من أنواع السلطنة دينية كانت أو سياسية أو غيرهما تحتاج إلى الإذن ممن له الحق في إضفاء صفة الشرعية على هذه السيادة والسلطنة.
من هنا نبدأ أولا في البحث عن مصدر الشرعية لسلطنة البشر على بعضهم البعض، ونقول بإيجاز شديد:
أن الإسلام تعاطى مع هذا الموضوع من زاوية الحكم والحاكم وقرر انحصار الولاية والحاكمية المطلقة على هاتين الزاويتين لله وحده، فلا يجوز لأحد أن يشرع قانوناً أو ينصب نفسه ولياً إلا بإذن الولي الحقيقي والسيد المطلق، كما لا يجوز له أن يتخذ حكماً أو ينتخب حاكماً لم يأمر به الله سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أن المسلمين كافة يؤمنون بأن الله قد بعث الأنبياء والرسل ليقوموا بهذين الدورين على تفصيل يطلب من محله.
فسيادة الأنبياء والرسل على البشر ليست بلحاظ عنصر البشرية فيهم وإنما بلحاظ عنصر الوحي المرتبط بهم: قال تعالى ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ سورة الكهف، آية 110
ولحاظ العصمة التي يتمتعون بها فيتجردون للدين ويخلصون للشريعة ويحكمون بالدين ويحكمونه في الواقع دون الوقوع في وحل الأهواء والشهوات والأمزجة الشخصية.
قال تعالى ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ سورة النجم، آية 3، 4
ولهذا وجب إتباع الرسل وطاعتهم لأن إتباعهم وطاعتهم إتباع للرسالة وتحقيق لسيادة الدين وهو مصداق لسيادة الباري عز وجل. قال تعالى ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ سورة النساء، آية 80
ومع غياب الرسل يأتي دور الأوصياء الذين يمثلون الشريعة، وهنا يقرر الشيعة استنادا إلى ما وصل إليهم صحيحاً من السنة الشريفة أنه لا يحق لأحد أن يتخذ إماماً لم يأمر به الله، أو لم يأذن بإتباعه، وقد نص النبي بأمر من الله على اثني عشر إماماً أولهم الإمام علي ، وآخرهم الإمام الحجة المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
قال تعالى ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ سورة القصص، آية 68
وفي الحديث عن الإمام الرضا سلام الله عليه: " إِنَّ الْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً وَأَعْظَمُ شَأْناً وَأَعْلَى مَكَاناً وَأَمْنَعُ جَانِباً وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ".
وهؤلاء الأئمة يجب إتباعهم وطاعتهم بلحاظ علمهم بالدين والعصمة، وإتباعهم هو الآخر إتباع للدين والرسول وبالتالي خضوع لسلطان الله عز وجل.
ومع غياب الأئمة يأتي دور نوابهم الخاصين أو العامين على أن يطاعوا بلحاظ الفقاهة بدلاً من الوحي والعلم، والعدالة بدلاً من العصمة.
وأخيرا ينبغي أن نقول أن التعيين الإلهي هو وحده مصدر الشرعية فيما يرتبط بالأنبياء والأوصياء، أما نواب الأوصياء فيستمدون شرعية سلطانهم من أمرين: الفقاهة والانتخاب إذ يعتبر التقليد نوع من أنواع الانتخاب الصامت في البقعة التي يكون الفقيه فيها غير مبسوط اليد، أما إذا كان الفقيه مبسوط اليد فمضافاً إلى التقليد هناك وسائل أخرى يمكن من خلالها استكشاف رأي الناس.
يحاول البعض أن ينال من رموز الإسلام فينسب لهم ضعف الكفاءة، وقد لا يصرح البعض بذلك ولكن ذلك يفهم من خلال بعض التعليقات التي يستشف منها الغمز لهذا المعنى، وربما انساق البعض وراء ذلك فنسب الفشل السياسي مثلا لأمير المؤمنين أو أشكل على الإمام الحسن أو غيرهما من الأئمة ، وإذا كان الحال في المنصوص عليهم هكذا ففي غير المنصوص يكون الأمر سهل يسير.
وهذا التشكيك ينبأ عن الجهل بالقيم التي يحملها المعصوم ويعمل من أجل تثبيتها في نفوس الناس وواقع المجتمعات، فالمعصوم يعمل على تطويع الواقع للقيم والمبادئ، بينما الموروث من الفكر السياسي التاريخي هو تطويع القيم والمبادئ للواقع، وعلى حد تعبير مالك بن نبي: الحضارة الإسلامية لم تنشأ عن مبادئ الإسلام، ولكن المبادئ هي التي تكيفت مع سلطة زمنية قاهرة.
ولعل الفكر السياسي المعاصر مطابق لذلك الموروث تحت شعار الواقعية والعقلنة وما شابه.
فالإشكال ينبأ عن مقدمات خاطئة في التحليل ومتى تم إصلاح هذه المقدمات فإن الإشكال يرتفع، ويضاف إلى ذلك الاصطفاء الرباني للمعصومين .
قال تعالى ﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سورة آل عمران، آية 33، 34
قال الشيخ الطوسي: ومعنى اصطفى: اختار واجتبى وأصله من الصفوة، وهذا من حسن البيان الذي يمثل فيه المعلوم بالمرئي وذلك أن الصافي هو النقي من شائب الكدر فيما يشاهد فمثل به خلوص هؤلاء القوم من الفساد لما علم الله ذلك من حالهم لأنهم كخلوص الصافي من شائب الأدناس.
فان قيل: بماذا اختارهم أباختيار دينهم أو بغيره؟
قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بمعنى أنه اختار دينهم واصطفاه، كما قال: "واسأل القرية" وهذا قول الفراء.
والثاني: قال الزجاج واختاره الجبائي، أنه اختيارهم للنبوة على عالمي زمانهم.
الثالث: قال البلخي: بالتفضيل على غيرهم بما رتبهم عليه من الأمور الجليلة، لما في ذلك من المصلحة. والاصطفاء هو الاختصاص بحال خالصة من الأدناس.
ويقال ذلك على وجهين: يقال اصطفاه لنفسه أي جعله خالصا له يختص به. والثاني: اصطفاه على غيره أي اختصه بالتفضيل على غيره وهو معنى الآية.
هذا كله بالنسبة إلى المعصوم، أما غيره فمضافاً إلى الشرائط العامة التي وردت في لسان الروايات والتي يشم منها الكفاءة، فقوله «حَافِظاً لِدِينِهِ» في الحديث الوارد عن أبي محمد الحسن العسكري «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لَا كُلَّهُمْ».
مضافا إلى ذلك فالأمر ليس منحصر في شخص بعينه وإنما في مجموع الفقهاء والترجيح في يد الناخب أي المقلد.
تتأثر الأساليب والوسائل بالموقع الجغرافي وما يحيط به من ظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، والزمن الذي يمارس فيه القائد دوره القيادي، كما أنها تتأثر بعلاقة القائد من السلطة وموقعه فيها.
وهذا ما يكشف لنا جلياً اختلاف الأدوار التي قام بها أئمة أهل بيت العصمة فمن معارضة الإمام أمير المؤمنين للقوم إلى استلام السلطة السياسية في البلاد الإسلامية، والإمام الحسن من استلام السلطة حينما بويع بعد استشهاد أبيه إلى مجابهة الانفصاليين في الشام ومنها إلى الصلح أو الهدنة معهم والتخلي عن السلطة السياسية، والإمام الحسين سلام الله عليه يعلن الثورة ضد بني أمية بعد موت معاوية واعتلاء ابنه يزيد سدة الحكم، وهكذا بقية الأئمة مما يكشف بوضوح أن الأهداف واحدة لا تتغير بينما الوسائل تختلف باختلاف لحاظاتها.
وعلى هذا المنهج سار فقهائنا رضوان الله عليهم متمسكين بالثابت من الدين، بينما المتغير والذي تعد الوسائل جزءا منه فقد أبدوا فيه من المرونة ما يكفي لانسجامه مع الزمان والمكان، ومن ذلك الهيكل الحديث لإدارة الدول، فالهيكل الإداري الجمهوري لم يكن موجوداً في أزمنة الصدر الأول ولكنه مادام وسيلة يحق الحق ويحقق أهدافه فقد تبناه إمامنا الراحل الإمام الخميني رضوان الله عليه ودعا إليه وطبقه في بناء دولته المباركة.
حينما ترتبط المصالح بالأفراد وعلى حساب القيم فلا شك في كونها من الأمور القبيحة والمذمومة شرعا وعقلا، أما إذا ارتبطت بالمبادئ والقيم ولعبت دور الحفاظ عليها فلا شك أنها تكون حينئذ من الأمور الحميدة، وهذا يفسر لنا سكوت أمير المؤمنين على كل ما جرى له وتنازل الإمام الحسن سلام الله عليه عن السلطة السياسية وعقد هدنة مع قادة الانفصال في الشام.
وحديثاً تجرع الإمام الخميني رضوان الله عليه السم وقبل الصلح مع صدام، وموقف مراجعنا السيد السيستاني والسيد المدرسي وغيرهما مما يجري في العراق يدخل في صلب الموازنة بين المبادئ والمصالح المحافظة عليها.
ومن الواضح البين أن الموازنة بين الأمرين وتشخيص الموقف هو من صلب مهام القيادة نبياً أو إماماً أو فقيهاً، وعليه فلا يحق لأحد أن يتصدى لعملية التشخيص ويعمل بها استناداً على خاصية قومية أو عرقية أو إقليمية.
وربما تعرض تشخيص القائد إلى نقد أو عدم استيعاب من العامة أو حتى من الخاصة كالذي جرى للإمام الحسن حين خاطبه بعضهم بقولهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين! أجابهم مستنكراً وموضحاً لهم المصلحة العليا التي من أجلها أقدم الإمام على الصلح، فقال «مَا أَنَا بِمُذِلِّ الْمُؤْمِنِيْنَ وَلَكِنِّيْ مُعِزُّ الْمُؤْمِنِيْنَ، إِنِّيَ لِمَا رَأَيْتُكُمْ لَيْسَ بِكُمْ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ سَلَّمْتُ الْأَمْرَ لِأَبْقَى أَنَا وَأَنْتُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، كَمَا عَابَ الْعَالِمُ السَّفِيْنَةَ لِتَبْقَىَ لُأَصْحَابِهَا وَكَذَلِكَ نَفْسِيْ وَأَنْتُمْ لِنَبْقَى بَيْنَهُمْ»