الهويات والإحتكام الثقافي (1-2)
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين .
قال تعالى في محكم كتابه الكريم ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ (1) .
لكل مجتمع هوية وشخصية ثقافية يمتاز بها عن غيره من المجتمعات ، قد يشترك أو يختلف في بعض سماتها مع المجتمعات الأخرى ، إلا أن المشهد العام يحكي تمايزا بين الهويات ، وبحكم اختلاف المرجعيات والخلفيات الثقافية لكل هوية ، سنلحظ التباين الواضح في المواقف والتفسيرات والنظرات للأحداث المحيطة بتلك المجتمعات ، فقد تجد سلوكا واحدا تتنوع تجاهه المواقف والتفسيرات وفقا لتنوع وتعدد الهويات والمرجعيات الثقافية والقيمية لأصحابها .
وكمثال لهذه الحقيقة ، ذلك التباين في النظرة إلى تقبيل الطفل مثلا ، ففي الوقت الذي تحثنا قيمنا على ملاطفة الطفل أيا كان ، وإدخال السرور على قلبه وملاعبته وتقبيله ، كما عن إمامنا الصادق عليه السلام (من قبل ولده كتب الله عز وجل له حسنة ، ومن فرحه فرحه الله يوم القيامة ) (2) ، وفي حديث آخر (اكثروا من قبلة أولادكم فان لكم بكل قبلة درجة في الجنة ) (3) وغيرها من الروايات الحاثة على ملاطفة الطفل ، فتقبيلنا للطفل الصغير مهما بعد عن قرابتنا هو في حقيقته إظهار وتعبير عن حبنا له ، وعطفنا عليه وتحننا به ، ولكن تجد أن ذات الموقف لو مارسته في بعض المجتمعات الغربية ، بأن قبلت واحتضنت طفلا أجنبيا ولاعبته قد تتسبب في رفع قضية عليك بتهمة التحرش الجنسي ، لأنهم يرون ذلك ليس تعبيرا عن المحبة بل هو تعبير عن ميل وشذوذ جنسي نحو الأطفال ، وقد وقع كثير من مبتعثينا في مثل هذه المواقف مما اضطر وزارة الخارجية السعودية إلى إصدار تعميم تحذر فيه رعاياها ، فقد ( دعت الخارجية في بيان صحافي إلى تجنب بعض التصرفات غير المألوفة في الثقافات الأخرى كتقبيل الأطفال الأجانب أو حضنهم أو الحديث معهم دون سابق معرفة بهم ، وركزت تحذيرات الوزارة على تجنب أي إطراء أو إبداء إعجاب لمن لا يعرفه ، إذ من الممكن أن يفسر هذا التصرف على أساس انه تحرش جنسي ، واعتباره جناية ) (4) ، فهذا سلوك قد تباينت تجاهه التفسيرات ، وذلك بسبب احتكام تلك التفسيرات والمواقف إلى ثقافتين وهويتين متباينتين .
بل إن اختلاف المنظومة القيمية المتسيدة والحاكمة للمجتمعات قد تفضي إلى مسلكيات تعتبر محمودة في مجتمع ومذمومة في آخر وفقا للقيم الحاكمة والناظمة لحياته ، والمشكّلة لرؤيته ، ففي مجتمعات غربية يعاب مثلا على الفتاة غير المتزوجة بقاءها على عذريتها ، ويعتبر ـ وفق نظرتهم – مؤشر على نفسية انطوائية ومعقدة تحملها هذه الفتاة ، بل ويعتبرون معاشرات الفتاة الحميمية خارج بيت الزوجية من قيمهم الحرة التي يدعون المجتمعات الأخرى للاقتداء بهم فيها ، ففي الأخبار (دعت الناشطة الهولندية المناهضة للإسلام أيان هيرسي المسلمات في العالم إلى التخلص من "ثقافة العذرية" التي "عفا عليها الزمن"، والتي تمثل "قمعا" للنساء في الثقافة الإسلامية ) وذلك بحسب وكالة أنباء "أمريكا إن ارابيك". ، بينما القيم الإسلامية التي تحكم نظرة المسلم وتنظم سلوكه تنظر للفتاة غير المتزوجة التي حافظت على عذريتها بعين الإجلال والإكبار ، وتعتبر ذلك مؤشرا على طهارتها وعفتها ، كما تدعو الفتاة إلى التحصن والتزام خلق العفة .
هذا التنوع الثقافي في الهويات أنتج إشكالية التحكيم القيمي ، إذ بتنا نعاني من إرادة أمم في تحكيم قيمها وثقافتها على مسلكياتنا ، لتجعل من ثقافتها وهويتها مرجعية لنا في حياتنا وطرائق عيشنا وتفكيرنا ، وهذا ما يطلق عليه اليوم بصراع الهويات .
هذا الشكل من العلاقة بين الهويات هو الذي خلق إرباكا فكريا ومنهجيا لدى بعض مثقفينا جعلهم يحتكمون إلى قيم وثقافة هويات أخرى في تقييم مسلكيات مجتمعاتهم المنطلقة من خصوصياتهم الثقافية ، مما خلق إشكالية حقيقية في علاقة المثقف مع موروثه الثقافي ، إذ اصبح يحاكم هذا الموروث بأدوات ومعايير تنتمي إلى ثقافة وهوية أخرى ، مما انتج لديه رؤية مشوشة ونتائج مشوهة حول هذا الموروث .