الطوارئ في زيارة ومفارقة
مفارقة صغيرة حدثت قبل أسبوعين دفعتني للمقارنة بين صورتين، صورة تتكرر في بلاد الشرق، ومنها بلادنا، وأخرى تتجدد في بلاد الغرب. لا تزال الأولى تبعث على الأسى، بينما الثانية تفضي إلى الأمل.
الصورتان تعبران عن بيئة ثقافية وسياسية وعلمية وإن تباعدتا جغرافياً. الصورة الأولى قفزت إلى الذهن عند مشاهدتي للصورة الثانية، رغم اتساع المدلولات التي تقف خلفهما.
فخلال زيارتي في بداية الأسبوع الماضي لمصنع طائرات «الايرباص» في مدينة تولوز الفرنسية، وأثناء متابعتي لتطبيقات خضوع النموذج المطور من طائرة A380 لمختلف الاختبارات قبل تسليمها للعملاء، لفت انتباهي اختبار إخلاء الطائرة من الركاب عند وقوع حالة طارئة، إذ أن المدة القصوى لإخلاء 525 راكباً من الطابقين، العلوي والسفلي، تستغرق فقط 90 ثانية!! فلم أعتمد في استيعاب الأمر على مجرد شرح مهندس الطيران حتى شاهدت الفلم الوثائقي لذلك الاختبار التطبيقي.
والمعلومة ذاتها أكدتها مطويات ومنشورات المصنع. تلك كانت الصورة الثانية.
أما الصورة الأولى فتجري تفاصيلها يومياً تقريباً في أغلب بلدان العالم الثالث. وتسقط الضحايا فيها بين قتيل وجريح ومفقود ومشرد. فعمليات إخلاء المواقع التي تتعرض للحريق، مثلاً، كالمنازل والعمارات والمدارس والجامعات والمدن، تفتقد عادة إلى عنصري التنظيم والسرعة في آن واحد، وكل شخص منا يختزن في ذاكرته صورا ومشاهد للفوضى والارتباك المصاحبين للتهور والعجلة تحت عنوان الارتجال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عند وقوع حوادث طارئة.
لا تكمن المشكلة في قدرة أبناء الشرق أو أبناء الغرب في التعامل مع الظروف الطارئة والتنفيذ السليم لعمليات الإخلاء المنظمة والسريعة. إنما أساس المشكلة يقوم على أمرين: البيئة الثقافية المهيمنة على الأفراد والمجتمع، والمنظومة العلمية التي تقف خلف البنية الإدارية لمؤسسات الدولة والمجتمع، لأنهما يصوغان سلوكيات وقابليات الفرد على التفاعل الإيجابي مع معطيات الحياة اليومية، هذا من جانب أولي.
ومن جانب آخر يساهمان في تشكل الذهنية الاجتماعية والسلوك العام في تقبل أو رفض التفاعل مع أي طرح إداري أو فكري أو سلوكي تنتجه عناصر من المجتمع ذاته كمنتج عملي أو فكري مؤداه التقدم الاجتماعي والتنمية الإنسانية والمحافظة على أرواح الناس في الحالات الاعتيادية والطارئة.
وقد تعمدت متابعة أخبار حوادث الحريق التي وقعت في مدن ومحافظات المملكة خلال الأيام الماضية التي تنشرها صحافتنا المحلية فوجدت أن معدل وقوعها شبه يومي. لذا نحن لسنا بحاجة فقط لإعادة النظر في سبل تعاملنا مع كل حادث حريق، مع علمنا بأن لكل حادث ظروفه الخاصة.
بيد أننا بحاجة أكثر لتكريس عمليتي تنظيم وتسريع التعامل مع تلك الحوادث بهدف المحافظة على الأرواح لاسيما مع تقدم التقنيات الحديثة التي تساعد على تطوير منهج إدارة التعامل مع الحوادث الطارئة.
هاتان العمليتان، التنظيم والتسريع، لا تعتمدان على الارتجال أو ما نسميه «الفزعة»، بل تعتمدان على تعقل الارتجال بالعلم والتقنية، لأن إدارة الطوارئ كعلم تتحول إلى واقع سريع الإيقاع عند وقوع الحدث، فيحتاج المديرون فيها إلى اختزال كل علمهم للتطبيق خلال ساعة أو خلال دقائق معدودة، وهي لحظات تتطلب الجمع بين حكمة الكبار وسرعة الشباب. والله من وراء القصد.