سكوت من تنك !!
منذُ نعومة أظفارنا ونحن يتم تلقيننا بأن الصمت خير من الكلام ، وقد لا يوجد إنسان من حولنا لا يحفظ الحكمة القائلة : " إذا كان الكلام من فضة ، فالسكوت من ذهب " ولا يبرئ أحد نفسه من أنه إستفاد من هذا المثل في موقف ما ، وعمد إلى توظيفه ليكبح لجام لسانه عن الإنفلات لئلا يشعر بعده بالأسف الذي ربما يرتقي إلى درجة الشعور بالذنب .
لا أنكر إطلاقاً بأن السكوت يعتبر من السلوك الممدوح ، وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني ، ومن فمك أُدينك ، وكما يقول الإمام علي : " الكلام في وثاقك ، فإذا خرج منك أصبحت أنت في وثاقه " وفعلاً لا غبار على هذه الحكم الذهبية التي ما إن تمسّك بها الإنسان في المواقف الحياتية فإنه ينجو من فلتات اللسان التي تبدو في بعض الأحيان كالرصاص المطّاطي المحرّم دولياً إلاّ على المُدللة " دولة العدو الغاصب " .
من المؤكّد عندما يكون السكوت خياراً فإنه زينة للإنسان ذكراً كان أو أًنثى ، لأنه في هذه الحالة يعبِّر عن قرارٍ إتخذه المرء بمحض إرادته ، ويُدرك مفاعيله على المدى القريب والبعيد ، فهو هنا يمثل سلوكاً مقصوداً ومخططاً له ، ويدخل تحت عنوان الحكمة والروية بإمتياز ، لأنه يأتي في إطار إستراتيجية العلاقات وإدارتها مع الآخرين ، ويُعدّ السكوت أحد أهم محاورها وفقاً لما يقتضيه الحال ، ولا يمثل عقبة كأداء تحول بين المرء ورغبته في الكلام والإفصاح عن ما يدور في خلده ، وما يتردد بين العقل والقلب .
بيد أن السكوت عندما يقع في دائرة " الكبت " فإنه يمثل حالة مرضية يجب معالجتها عاجلاً غير آجل ، لأنه هنا لا يُعدُّ خياراً ذاتياً إتخذه الإنسان من تلقاء نفسه ، بل توجد هناك عوامل خارجية ضاغطة هي التي أدّت إلى أن يلوذ المرء بالصمت ، وكأن حاله يقول " في فمي ماءٌ ، وهل ينطقُ من في فيه ماءُ " !! وذلك تعبير عن حالة المنع والصد التي يتعرض لها الأمر الذي يدفعه إلى السكوت وهو يبتلع الآلام دون أن يعلم به أحد .
هذا السكوت القسري يتسبب في تحطيم الذات ، والشعور بالهوان ، وعدم الآدمية ، لأنه يتعارض مع الناموس الإلهي الذي " خلق الإنسان ، علّمه البيان " ومهما كانت حاضنته الإجتماعية سواء في : محيط الأسرة ، أو في بيئة العمل ، أو في العلاقات الإجتماعية ، أو في المدرسة ، أو في النادي ، وغيرها .. ، فإنه يمثل حالة غير صحية على الإطلاق ، بل إنه تتولد عنه عاطفة الكراهية ، وإنخفاض نسبة الولاء إذا لم يكن إنعدامه تماماً ، حيث تصبح حالة السكوت تلك معضلة ضخمة تفرز مشاعر الخوف ، والشك والريبة ، وعدم الشعور بالأمان ، والهروب الدائم من المواجهة ، وإستخدام النفاق ، وعدم الوضوح ، والكذب والتزييف ، وغيرها من الإفرازات السلوكية البغيضة .
من المؤكّد إنّ التعبير عن الرأي يجب أن يكون مغلّفاً بالإحترام والأدب الذي يعكس مستوى الوعي والمسؤولية عند صاحبه ، حيث لا يعني عدم السكوت ، التهور ، والإنجراف وراء الرغبة الجامحة في الكلام ، بصورة إنفعالية تضر أكثر مما تنفع ، وتعقِّد الأمور أكثر مما تفرجها ، لأن الضعيف هو ذلك الشخص الذي تسمع صوته مدوِّياً في كل مكان ، إنما ما يجب الإنتباه له هنا أن لا يتحول السكوت إلى " حالة إدمان " فتضيع الهوية في حضرة أشرار البريّة ، الذين لا يقلقهم سكوت الآخرين ، لأنهم تعوّدوا أن لا يسمعوا إلاّ صوتهم في الساحة . وهذا منتهى المأساة !! تحياتي .