الجانب الآخر لحياة السيدة زينب عليها السلام
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله ، محمد بن عبد الله وآله ومن والاه واهتدى بهداه إلى يوم الدين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين .
بهذه الذكرى العطرة ، نرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات لمحمد وآل محمد وخصوصا لمولانا صاحب العصر والزمان بمولد الصديقة الصغرى عقيلة الطالبيين زينب بنت امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وللمراجع العظام والمؤمنين والمؤمنات ، سائلين المولى عز وجل أن يوفقنا وإياكم ببركتها في قضاء حوائجنا وحوائج المؤمنين والمؤمنات أجمعين .
في هذه الذكرى العطرة أحببت أن نلقي الضوء على الجانب الآخر من حياة مولاتنا الصديقة الصغرى وهو جانب زوجها ، والتعرف عليه من قرب ، وذكر بعض من جوانب حياته الشريفة ، وهو ابن عمها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب عليهم جميعا صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته .......
في شهر رجب من السنة الخامسة من مبعث النبي، وهي السنة الثانية للهجرة ، قرّر فريق قليل من الرجال والنساء وبمشورة سيدهم وقائدهم ، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتجهوا للحبشة لكي يحافظوا على عقيدتهم، ويتخلصوا من أذى وغطرسة قريش ، وكان فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، فتوجهوا إليها.
وقد حاول المشركون في مكّة اللحاق بهم، فبعثوا جماعة من رجالهم لإعادتهم إلى مكّة ، فباؤو بالفشل ثم تبعت هذه الهجرة ، خروج جماعة أُخرى بلغ عددها 83 فرداً على رأسهم: «جعفر بن أبي طالب » ابن عمّ الرسول حيث تمّت بحريّة، وقد اصطحبوا فيها نساءهم وأولادهم،إلى أرض الحبشة أيضاً. وقد وجد المسلمون أرضها كما وصفها النبي ص: عامرةً، وبيئة آمنة حرة، تصلح لعبادة اللّه تعالى بحرّية وأمان. وبيّنت «السيدة أُمّ سلمة» الوضع بقولها: «لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمننا على ديننا، وعبدنا اللّه تعالى، لا نُوَذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه وفي هذه الإقامة المباركة ولد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وبهذا فهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة.
كانت أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة كريمة شريفة ذات رأي حازم ، ومعرفة وتجربة ، هاجرت في سبيل الله مع زوجها جعفر الطيار هجرتين ، الأولى إلى الحبشة ، والثانية إلى المدينة. وبعد شهادة زوجها جعفر تزوجت من أبي بكر فأولدها محمد بن أبي بكر.
وكانت وثيقة الصلة بالسيدة الزهراء عليها السلام وهي التي ساعدتها فترة مرضها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت قريبة منها عند وفاتها ، وشاركت الإمام علي في تجهيز فاطمة الزهراء . وبعد وفاة أبي بكر تزوجها الإمام علي وضمّها إلى عياله مع ولدها محمد بن أبي بكر وهو في الرابعة من عمره ، والذي أصبح ربيب الإمام علي ، وولدت للإمام علي ولداً أسماه يحيى ، فعبد الله بن جعفر ومحمد بن أبي بكر ويحيى بن علي إخوة من أم واحدة .
يقول عنها العلامة المحقق الشيخ جعفر النقدي : كانت أسماء من القانتات العابدات ، روت الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله ، وعن علي والزهراء عليهما السلام. وروى عنها كثيرون منهم ابنها عبدالله بن جعفر ، وحفيدها القاسم بن محمد بن أبي بكر وهو جد إمامنا الصادق عليه السلام لأمه ، وروى عنها عبدالله بن عباس وهو ابن أختها لبابة بنت الحارث..........
قيل : وكان الخليفة عمر يسألها عن تفسير المنام ، ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره ، قال في الإصابة : ويقال أنها لما بلغها قتل ولدها محمد بمصر قامت إلى مسجد بيتها وكظمت غيظها حتى شخب ثدياها دماً.
وقد عبر عنها الإمام الصادق عليه السلام بـ « النجيبة » ، وترحم عليها بقوله : رحم الله الأخوات من أهل الجنة وعد أسماء في مقدمتهن.
وهذا هو الحضن الذي تربى فيه عبدالله بن جعفر زوج السيدة زينب عليها السلام .
وجعفر الطيار هو ابن أبي طالب ، وأخو الإمام علي ، وهو أكبر من الإمام علي بعشر سنين ، وهو ثالث من أسلم وصلى مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد علي وخديجة ، حيث كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتقدمهم للصلاة وعلي عن يمينه وجعفر عن يساره وخديجة من خلفه .
وكان جعفر يشبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في خلقه وخُلقه ، وكان يكنيه « أبا المساكين » . وعن الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : كان جعفر أشبه الناس برسول الله خلقاً وخُلقاً ، وكان الرجل يرى جعفر فيقول : السلام عليك يا رسول الله . يظنه إياه ، فيقول : لست برسول الله أنا جعفر .
قال حسان بن ثابت :
وكنا نرى في جعفر من محمد * وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم صدق لا ترام ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حولهم * رضام إلى طود يطول ويقهر
بها ليل منهم جعفر وابن اُمه * علي ومنهم أحمد المتخير
وهو الذي قاد أول مجموعة مسلمة مهاجرة إلى الحبشة ، من مكة المكرمة ومعه زوجته أسماء بنت عميس ، وبقي جعفر في الحبشة حتى السنة السابعة من الهجرة ، وعندما ترك الحبشة قاصداً المدينة ، كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) راجعاً من حرب خيبر ، والتقاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقبله بين عينيه ، وقال : ما أدري بأيهما أشد فرحاً بقدوم جعفر أو بفتح خيبر .
وقال له : أنت أشبه الناس بخلقي وخُلقي وقد خلقت من الطينة التي خلقت منها ، ولم يمض على بقاء جعفر في المدينة إلى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا حوالي سنة واحدة حتى بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سنة 8 هـ على رأس جيش من المسلمين يبلغ ثلاثة آلاف مقاتل لمواجهة الروم.
وفي مؤتة ـ قرية في الأردن ـ حصلت معركة حاسمة على حدود الشام حيث كان عدد جيش الروم أكثر من مائة ألف ، وأخذ الراية جعفر وتقدم بمن معه من المسلمين وحمل على تلك الحشود التي ملأت الصحراء بعددها وعتادها ، وظل يقاتلهم حتى قطعت يمينه وشماله وخر صريعاً ، ووجدوا في مقدم جسده بعد شهادته أكثر من تسعين ضربة وطعنة .
وكان ينشد أثناء القتال :
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
وكانت شهادة جعفر في غزوة مؤتة في جمادي الأولى سنة 8 هـ . وفي ( عمدة الطالب ) : لما رأى جعفر الحرب قد اشتدت ، والروم قد غلبت ، اقتحم عن فرس له أشقر ثم عقره ، وهو أول من عقر في الإسلام فقاتل حتى قطعت يده اليمنى ، فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل إلى أن قطعت يده اليسرى أيضاً ، فاعتنق الراية وضمها إلى صدره حتى قتل ، ووجد فيه نيف وسبعون ، وقيل نيف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمية .
وحينما وصل خبر مقتله إلى المدينة جزع المسلمون كثيراً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، إن له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة ».فسمي ذا الجناحين والطيار.
وقال ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم إن جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته، وينقل التاريخ أن جعفر بن أبي طالب كان معروفاً بحسن السيرة والسلوك حتى قبل الإسلام ، وروي عنه أنه كان يتحدث عن حياته في الجاهلية ، فيقول : ما شربت خمراً قط ، لأني علمت إن شربتها زال عقلي ، وما كذبت قط ، لأن الكذب ينقص المروءة ، وما زنيت قط ، لأني خفت إني إذا عملت عمل بي ، وما عبدت صنماً قط ، لأني علمت انه لا يضر ولا ينفع.
وروي أن جعفر بن أبي طالب كان يقول لأبيه : يا أبة إني لأستحي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله ! فأجابه أبوه : إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب.
وفي الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « إن الله اختارني في ثلاثة من أهل بيتي ، أنا سيد الثلاثة : اختارني وعلياً وجعفراً وحمزة .
ذلك هو الأصل الذي تفرع عنه عبدالله بن جعفر زوج السيدة زينب ( عليها السلام )
بعد شهادة أبيه في مؤتة أخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حجره قائلاً :أما عبدالله فشبيه خلقي وخُلقي ، اللهم اخلف جعفراً في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، وخاطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسماء زوجة جعفر والتي كانت متأثرة ليتم أبنائها قائلاً : لا تخافي عليهم أنا وليهم في الدنيا والآخرة.
ومن الطبيعي أن يرعاه أبو اليتامى عمه صلوات الله وسلامه عليه بعد شهادة أبيه ، صحب عبدالله بن جعفر النبي صلى الله عليه وآله ، وحفظ الحديث عنه ، ولازم عمه أمير المؤمنين ، وابني عمّه الحسن والحسين ، وأخذ العلم عنهم .
وكان أغنى بني هاشم وايسرهم ، وكانت له ضياع كثيرة ، ومتاجر واسعة وكان أسخي رجل في الإسلام ، وله حكايات في الجود كثيرة وعجيبة ، وجاء في كتاب ( الاستيعاب ) : أن عبدالله بن جعفر كان كريماً جواداً ظريفاً خليقاً عفيفاً سخياً ، يسمى بحر الجود.
وذكر ابن عساكر قال : روى الحافظ : أن معاوية كان يقول : بنو هاشم رجلان رسول الله لكل خير ذكر ، وعبد الله بن جعفر لكل شرف ، والله لكأن المجد نازل منزلاً لا يبلغه أحد وعبد الله بن جعفر نازل وسطه.
وقال ابن حجر في ( الأصابة ) : أخرج ابن أبي الدنيا والخرائطي بسند حسن إلى محمد بن سيرين : ان دهقاناً من أهل السواد كلم ابن جعفر في أن يكلم علياً في حاجة ، فكلمه فيها ، فقضاها فبعث اليه الدهقان أربعين ألفاً ، فردها وقال : إنا لا نبيع معروفاً. ومضى إليه رجل يدعي أنه ابن سبيل ، قد راهن الناس على أن عبدالله أجود الناس ، فقالوا : أرنا . فجاء إليه وعبد الله على راحلته يريد ضيعة له ، فقال الرجل : يا ابن عم رسول الله . قال : قل ما تشاء . قال : انا ابن سبيل قد انقطع بي. فأخرج عبدالله رجله من ركابه ونزل عن راحلته ، وقال له : ضع رجلك ، واستو على الناقة ، وخذ ما في الحقيبة ، وايّاك أن تخدع عن السيف فانه من سيوف علي بن أبي طالب .
ثم ترك الرجل ورجع. أما الرجل فقد وضع رجله في الركاب واستوى على الناقة ومدّ يده الى الحقيبة
فوجدها ممتلئة بمطارف الخزّ ، وبها اربعة آلاف دينار ، وكان سيف علي أنفس من المطارف وأجل من الدنانير.
وخرج عبدالله بن جعفر يوماً الى ضيعة له فنزل على حائط به نخيل لقوم وفيه غلام اسود يقوم عليه ، فأتى بقوته ثلاثة اقراص فدخل كلب فدنا من الغلام ، فرمى اليه بقرص فأكله ، ثم رمى اليه بالثاني والثالث فأكلهما ، وعبدالله ينظر اليه.
فقال : يا غلام كم قوتك كل يوم ؟ ، قال : ما رأيت. ، قال : فلم آثرت هذا الكلب ؟ . قال إن أرضنا ما هي بأرض كلاب ، وان هذا الكلب جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أردّه .، قال : فما أنت صانع اليوم ؟ . ، قال : أطوي يومي هذا . ، فقال عبدالله بن جعفر : ءألام على السخاء وهذا العبد أسخى مني ؟ . ، ثم اشترى الحائط وما فيه من النخيل والآلات ، واشترى الغلام ثم أعتقه ووهبه الحائط بما فيه من النخيل.
ويشير السيد بحر العلوم الى أن الخيرات والبركات قد انهالت على عبدالله بن جعفر عند زواجه بالسيدة زينب ( عليها السلام ) فيقول : وزحفت البركة على ابن جعفر مع زينب فوفد عليه الرزق من المال والولد ، وامتلاك الضياع ، وفاضت أرضه بالثمار والغلات ، ووفد أهل المدينة وأبناء السبيل في حاجاتهم على بابه : باب زينب بنت الزهراء. وكان عبدالله بن جعفر منقطعاً الى عمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم الى الحسنين ( عليهما السلام ) وله في الجمل وصفين والنهروان ذكر مشهور ، واشار ابن عبد ربه الأندلسي إلى أن عبدالله بن جعفر كان كاتباً لعمه الإمام علي فترة خلافته .
ويقول السيد الخوئي ( قده ) عن شخصية عبدالله بن جعفر : جلالة عبدالله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها إلى الإطراء . ومما يدل على جلالته أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يتحفظ عليه من القتل كما كان يتحفظ على الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ومحمد بن الحنفية.
أما عدم خروجه مع الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء فقد قيل : انه كان مكفوف البصر ، ولما نعي إليه الحسين ، وبلغه قتل ولديه عون ومحمد كان جالساً في بيته ، ودخل عليه الناس يعزونه فقال غلامه أبو اللسلاس : هذا ما لقينا من الحسين ، فحذفه عبدالله بنعله ، وقال له : يابن اللخناء أللحسين تقول هذا والله لو شهدته لما فارقته حتى أقتل معه ، والله انهما لمّما يسخى بالنفس عنهما : ويهون عليّ المصاب بهما انهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه ، ثم انه أقبل على الجلساء فقال : الحمد لله اعزز عليّ بمصرع الحسين إن لم أكن واسيت الحسين بيدي فقد واسيته بولدي.
هذا هو عبد الله بن جعفر لمن لا يعرف من هو ..............
وتوفي عبد الله بن جعفر صلوات الله عليه في المدينة المنورة سنة ثمانين من الهجرة النبوية عام الحجاف - وهو سيل كان ببطن مكة حجف بالناس فذهب بالحاج والجمال بأحمالها وذلك في خلافة عبد الله بن عبد الملك بن مروان - وصلى عليه السجاد ، أو الباقر ( ع ) كان أمير المدينة يومئذ أبان بن عثمان ، وخرجت الولائد خلف سريره قد شققن الجيوب والناس يزدحمون على سريره ، وممن حمل السرير أبان بن عثمان وما فارقه حتى وضعه بالبقيع ودموعه تسيل وهو يقول : كنت والله شريفا واصلا برا ،
قال هشام المخزومي : أجمع أهل الحجاز وأهل البصرة وأهل الكوفة على أنهم لم يسمعوا ببيتين أحسن من بيتين رأوهما على قبر عبد الله بن جعفر وهما :
[ مقيم إلى أن يبعث الله خلقه * لقاؤك لا يرجى وأنت قريب ]
[ تزيد بلى في كل يوم وليلة * وتنسى كما تبلى وأنت حبيب ]
هذا والله اعلم .