من مدرسة الزهراء عليها السلام
فدك عنوان مدرسة تلقي فيها الزهراء عليها السلام دروسا للناس كل الناس، تعلمهم فيها فن التصدي والمقاومة والإصرار، فن عدم الرضا بالضيم، فن العمل الجاد الدؤوب للتعبير عن المظلومية والمطالبة برفعها، وعدم الاستسلام للظروف القاهرة.
كان يمكن للزهراء عليهاالسلام أن لا تكترث لفدك، وأن تسكت على غصبها حقها، وتلزم بيتها مكتفية كما يكتفي كثير غيرها - من الرجال ناهيك عن النساء – بترداد الشكوى مع الذات أو مع الدائرة الضيقة جدا.
ولكن، حاشاها أن تفعل ذلك، وهي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وآله، وبضعته الطاهرة، وروحه التي بين جنبيه.
فهي تدرك أن فدكا لا تمثل قرية بخيبر، فكل الدنيا لا تساوي في عين الزهراء عليها السلام شيئا، ولسانها لسان بعلها أمير المؤمنين عليه السلام حين يقول: وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعتها يد حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسد فرجها التراب المتراكم.
إذن فدك ليست أرضا، بل هي رمز لشيء عظيم، رمز عبر الإمام الكاظم عليه السلام حين سأله الخليفة العباسي أن يبين له حدود فدك كما روى ذلك ابن شهرآشوب في مناقبه: أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر : حدّ فدكا حتى أردها إليك ، فيأبى حتى ألح عليه فقال عليه السلام لا آخذها إلا بحدودها قال : وما حدودها ؟ قال : إن حددتها لم تردها قال : بحق جدك إلا فعلت ؟ قال : أما الحد الأول فعدن ، فتغير وجه الرشيد وقال : أيها ، قال : والحد الثاني سمرقند ، فأربد وجهه قال : والحد الثالث إفريقية فاسود وجهه وقال : هيه قال : والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية قال الرشيد : فلم يبق لنا شيء ، فتحول إلى مجلسي ، قال موسى : قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها.
فهذا الحوار يبين رمزية فدك، وأنها تشير إلى الحق المسلوب والخلافة التي تحولت عن أمير المؤمنين عليه السلام إلى غيره، وكان أحق بها وأهلها.
إن الزهراء ومن منطلق حرصها على هذه الأمة، وخوفها عليها أن تنزلق إلى التيه الذي لا يعلم نهايته إلا الله، قامت بدورها الكبير متحدية الظروف العصيبة المتمثلة في حراجة اللحظة الراهنة آنذاك، وخذلان الناصر، بالإضافة إلى الآلام التي تعتصرها لفقدها الوالد الرحيم رسول الله صلى الله عليه وآله، خصوصا وهي ترى ما جرى منذ فراقه.
قَد كانَ بَعدكَ أنباءٌ وهنبثة = لَو كنت شاهدها لَم تكثر الخطبُ
لقد قامت الزهراء بسلسلة من المواقف التاريخية تمثل بعضها في التالي:
1- زياراتها مع أمير المؤمنين لبيوت المهاجرين والأنصار لإقامة الحجة عليهم: فقد خرجت مع الإمام تطوف على بيوتهم أربعين صباحا – كما ذكر الشيخ المفيد في الاختصاص – تطالبهم بالانتصار لها في قضية فدك، فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها!
2- إقامة مجالس الندب على رسول الله عند قبر النبي وفي بيتها وفي البقيع.
3- إلقاؤها خطبة تاريخية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله في حشد المهاجرين والأنصار، شخصت بها الواقع السياسي آنذاك، وتحدثت عن ظلامتها بحججها المفحمة، وأدانت فيها كل المواقف المتخاذلة. وهي خطبة مشهورة مذكورة في العديد من مصادر الفريقين يجدر بكل واحد أن يطالع شروحاتها ويتأمل معانيها الدقيقة.
4- إلقاؤها خطبة في بيتها عليها السلام على نساء المهاجرين والأنصار حين جئن لعيادتها في مرضها، وهي خطبة تحمل من التأنيب والتوبيخ الشديد الكثير على ما آلت إليه الأمور، كما تكشف عن المستقبل المظلم الذي ينتظر الأمة: أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريث ما تنتج ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً أو ذعافاً ممقراً، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون.
5- مواصلة الاحتجاج بعد الوفاة: وذلك حين أو صت الإمام أن يدفنها ليلا وأن يعفي قبرها ليكون في مراسيم دفنها وفي خفاء قبرها أبلغ أساليب التعبير الاحتجاجية وأدومها. فهذا علي عليه السلام يخاطب النبي صلى الله عليه وآله عند قبرها قائلا:
ستنبئك ابنتك بتظاهر أمتك علي وعلى هضمها حقها، فاستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا، ويحكم الله وهو خير الحاكمين.