محاكمة السلطان
في زمن تتهاوى فيه الملوك وينتهي جحيم رؤساء مستبدين، تتطلع أقوام آخرين لبلوغ الصدارة - الصدارة التي ما كان يحلم بها أحد، ولم يجرؤ أن يوسوس بها بشر في أحلام منام أو يقظة - في هذه الفترة الزمنية الحرجة بالتحديد كان من المهم أن نفتح القرآن الكريم، لنسلط الضوء على هذا (المقعد الخطر) حتى لا ينقلب الثائر المناضل فرعونا آخر، وتعود الربقة للشعوب مقيدة بعد كسر قيد قديم لترتدي خلخالاً آخراً، يحمل شعاراً مغايراً بنقشة جديدة ولون مختلف، وحتى نكشف اللثام عن الأخطاء التي يرتكبها (الحاكم) سواءً كان مورثاً أو منتخباً أو ثائراً متمرداً وصل قمة العرش بالمنافحة العصامية، ولترتطم هذه الحقيقة بمن تنطبق، ولتصفع من تصفع كيفما تشاء، لنكون في حياد دون تزلف لأحد !
في صفحات النور سنشاهد فسيفساء مدهشة لمواقف الملوك، جديرة بالإثارة والتلويح حول هذا المقام الرفيع، ولنتناول البصائر والرؤى من خلال حديث الرب الجليل، لتتضح لنا معالم الطريق، وننهل من نمير هذا الذكر العظيم، الذي هو نبراسٌ وقاد لكل مسلم وإن اختلفت المشارب والأذواق، إلا أن هذا القرآن يبقى هو الواحة التي يتفيؤ الجميع ظلالها الوارفة ويلتف حولها كل من يحمل هوية الإسلام ..
(كرسي الملك) كثيراً ما تتطلع النفوس لكسبه، وتبذل كل غال ونفيس للحظوة به، بل وتقدم الانتقادات اللاذعة إن بلغ سواهم هذا المقام الكبير، (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْك) عبارة كاشفة عن عمق تلك الرغبة الجامحة التي تتعملق في الأعماق ويرويها لنا تبارك وتعالى في قصة طالوت الملك، إلا أن المقاييس تختلف عما يتوقعه البشر في كون أن (الثراء والبذخ) هو المعيار للبلوغ، والله يضع معاييراً مختلفة عما يتصوره الشعب البسيط غير المدرك لما وراء الأمور، إذ هي الأجدى والأجدر بصفات الملك الحقيقي حينما يكون الاختيار بإرادة السماء، لا بانتخابات وصناديق اقتراع يدشنها سكان الأرض، فـ(بسطة العلم والجسم) مقدمة على بسطة الثراء كما كانوا يتوهمون : (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَال) !!
يروي لنا القرآن المجيد مجموعة ضخمة من سيرة الملوك بشتى أنواعها وأشكالها : ( بلقيس الملكة الأنثى، سليمان وداود الملكان النبيان، فرعون والنمرود الملكان الطاغيان )، وحولهما شذرات أخرى من حياة طالوت ويوسف وغيرهم...
في هذه السطور نستعرض بعضاً من قطفات كريمة وضاءة تحمل لنا رشفة من نمير ينحدر من قصر يحكمه ملك، أو ملك يحكمُ شعب؛ لنصل إلى جملة من اللفتات القرآنية الهامة والتي نحن بأمس الحاجة لمعرفتها في عصر تسقط فيه تيجان وتولد فيه تيجان قوم آخرين، على شكل باقة من بصائر الذكر المنير ..
• سرقة السفن :
في قصة الخضر (عليه السلام) يُدهشنا الأخير - بطل الحكاية - إذ يظهر أنه رجل عفيفٌ وعالمٌ حصيف، إلا أن نزاهته وضعت على المحك في دهشة النبي المراقب (موسى) وفتاه الملازم لهما، كيف أنه تسلل إلى سفينة قوم فتعمد خرقها ليغرق أهلها؟!، لم يستطع موسى (عليه السلام) أن يحتمل هول الخطب الحدث الرهيب رغم الشروط والمواثيق المغلظة التي تعهدها أن لا ينبس ببنت شفة في تلك الرحلة، وكان الجواب في كشف لثام خطير جداً إذ قال: (وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها، وكان من ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) فهذا الملك رغم ثرائه وملكه إلا أنه جشع يجور على كل أصحاب السفن، والشعب لا يملك حيلة في ذلك، بل تصل ذروة القذارة والخسة منه أن يسرق وينهب أموال المعدمين والمساكين الذين هم تحت خط الفقر!!، وهنا نتعلم درس المقاومة ومناهضة الحاكم الجائر والملك المغتصب للحقوق، ووضع العصا في عربة شيطنته بأية حيلة، ولو بأحداث عيب بالغ في السفينة كالخرق العظيم، وليست الحرفية والجمود من ديدن المتدبر لآيات القرآن فعليه قد تختلف المسميات المسروقة، إلى أراضٍ ومساكن وشركات وعقارات و...، بل قد يتقاسم الأرباح دون أن يكون له مشاركة إلا بالسلب والنهب الجائرين، والممانعة والمدافعة الواجبة في قوله : (فأردت أن أعيبها) حتى لا يسرقها الملك الغاصب !!
• إنقاذ الشعوب :
وكما قالت العرب : " بأضدادها تعرف الأشياء"، نورد هنا قصة ظريفة إذ أن حكاية يأجوج ومأجوج شهيرة في كتاب الله، وأن الشعب كان يأمل بتشييد (سد) لينقذ البشرية ليس من الأمطار المغرقة والفيضانات المهلكة التي تدمر كل ما أتت عليه، بل من شر أولئك القوم الشرسين، فلم يأخذ عليهم الملك الصالح (ذو القرنين) أجراً، بل طور الفكرة والمشروع المقدم له من كونه مشروع بناء (سد) متواضع، إلى أن يتجشم العناء على نفسه بأن يبني لهم (ردماً ) شاهقاً لا ينسف بمرور الأيام والأعوام، وعلاوة على ذلك رفض الأموال والخراج الذي كان الشعب يمنيه ويغريه به : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا )، لم يكن ذلك الردم مضحكة على الأذقان إذ أن النتيجة باهرة : (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)، هذا ما صنعه ذو القرنين (عليه السلام)، فأين واقع الملوك اليوم من هذه النهضة الحقيقية؟! التي هي واضحة ومكشوفة على أرض الواقع، لا فيما تزينه الأبواق المأجورة !!
• اتهام البريء :
كم في السجون من أبرياء ومساكين؟!، لا ناقة لهم فيما اتهموا به ولا جمل، وهكذا نسمع ونشاهد كم هم الذين أودعوا السجن دون جناية أو حتى محاكمة، هكذا هو حال كثير من حكام الأرض، وهذا إنما يكشف عن غياب خصلة مفقودة قالها عزيز مصر يوسف النبي (عليه السلام): (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ)، ولكن حكام اليوم يبالغون في حبس الأبرياء ومن لا ذنب لهم، فأين الملك الصالح من ملوك الظلم والاستبداد ؟!