حليب الخواجات !
يعيش الإنسان في دورة حياته على غذائين ويتكئ عليهما ، وهما غذاء الروح وغذاء الجسد ، ولهما معاً عدة قنوات متصلة بعدة نوافذ تطل على العالم الخارجي لروح وجسد الإنسان ، ومنها نافذة العين والأذن والفم والأنف . بالنسبة للفم فهو النافذة المهمة لقناة الجسد اللوجستية الملموسة ، ومن خلاله يتم إستمرار اللقيم الغذائي للإنسان منذ ولادته حتى يغادر هذه الدنيا ، وأهم تلك الأغذية ( الحليب ) ، والذي يبدأ به أول رشفة يتجرعها كهدية لدخوله عالم الدنيا . وحليب الأم سيدي القارئ غني عن التعريف بما يحتويه من قيمة غذائية متكاملة ، وبما إن حليب الأم يحتوي على كمية قليلة من الحديد بسبب هبوط نسبته أثناء الحمل وتكوين بنية الطفل ، أودع الله سبحانه وتعالى بكبد الرضيع كمية محسوبة ربانياً من الحديد تكـفيه منذ ولادته حتى يبلغ ستة أشهر ، إذ سيعتمد مستقبلاً على اللقيم الخارجي المساعد لحليب الأم الموجود في بعض الأغذية الغنية بالحديد .
لقد أثبت العلماء ، إن الرضيع سريع التأثر بالأغذية الروحية والجسدية المحيطة به قبل وبعد الولادة ، وحتى وإن كانت موجات صوتية تصطدم ببطن وطبلة أذن الأم ، إذ تترجم بلغة الشفرات الكهربائية ، والتي تصل إلي المشيمة مع قناة الحبل السري كما تسمى ، ومن تلك الأصوات المؤثرة الإنصات للقرآن الكريم أو الأستماع للموسيقى الكلاسيكية أو الصاخبة .. إذ أن الطفل يستطيع أن يسمع ويستمع ويحلل ويتأثر بما يدور حوله في أثناء الحمل .
الأن سنتحدث عن قصة الحليب المجفف المستورد الذي أصبح أهم لقيم في تكوين حياة الإنسان العربي !
أخترع ميخائيل جابلر الحليب المجفف ( الصناعي ) عام 1858 م ، من مدينة أبركرنيزبورغ ، ثم طوره الخبير الغذائي السويسري هنري نستل (Henri Nestle) عام 1860 م ليستخدم كحليب للرضع بسبب إرتفاع نسبة الوفيات بين أطفال سويسرا ، وخاصة بدور الأيتام والمصحات الدينية .. وتحتوي مكونات الحليب المجفف على ( حليب الأبقار ) وحبوب تسمى فارين لاكتي (Farine Lactee) ، ولقد شاع أستخدامه من قبل الأمهات في أوروبا أولاً ومن ثم أمريكا ، وقد اقتصر أستخدامه للمرضعات فقط ، اللاتي يشكين ضعف في البنية الجسدية ، أو نقصاً بالمغذيات اللا متوازنة بمكونات الحليب الغني ، وفي ظل أنتشار الأمراض المعدية والأوبئة الفتاكة ، وكذلك أستهلاك الحليب لليتامى والمنبوذين ، الذين يصل عددهم لعدة ملايـين .
بعد الحرب العالمية الأولى أنشغلت المرأة الأوروبية والألمانية خاصة بدخول معترك الصناعة والتطوير الحربي الإجباري ، وبات لزاماً عليها ترك أطفالها ، وعلى أقربائها إرضاع طفلها حليباً مجففاً ، مما حدى بهذا إلي مضاعفة كمية أنتاج وأستهلاك الحليب المجفف ، ومع مرور الزمن وأنتهاء الحروب ، أقتصر الحليب المجفف على الـُرضع المشغولي الأبوين .. ومع بداية الستينات غزى حليب الأطفال المجفف العالم العربي ، لكن في بداية الأمر ، لم تعره المرأة العربية أي إنتباه ! ولأنها وبكل بساطة تهتم بتغذية إبنها طبيعياً ، حيث في زمانهم ، لم تكن تعرف ثقافة الإرضاع الصناعي للأطفال العرب ، ويعزو هذا إلي إمتلاء صدر الأم العربية بالحليب الطبيعي أيام وفرة الأغذية الطبيعية والخالية من المواد الحافظة والمنكهات ، والذي يغني ويبطل عن التيمم بالحليب الصناعي .
في هذا الزمان ، ومع الأسف أصبحت الفتاة العربية ، وفي الأسبوع الأول للولادة ، ومع أول لقاء لها مع دكتور الأطفال تفكر بأسم وشكل حليب البودرة الذي سيـلـقــّم إبنها الجديد ! والذي سيعبئ الفراغ الموجود في حقيبتها الكبيرة التي ستحملها وسيشاهدها من حولها كنوع من الديكور والبرستيج الشكلي الجديد ! .. مع مرور الوقت سينمو جسد الطفل وسيتغذى مع البودرة جسدياً ، ومشاهدة الأفلام الكرتونية (السيئة) روحياً ! ، فيكبر ويكبر حتى يتطور غدائه ويأخذ شكلاً آخر ، ويصبح جانك أو فاست فود ( الأكلات السريعة ) جسدياً ، ومشاهدة الأفلام الإنفتاحية والكمبيوترية روحياً !
إذاً أحبتي القراء العـرب ( رضينا أم أبينا ) أكتشفنا حقيقة واحدة لامفر منها وهي : إن مصانع حليب بودرة الخواجات الموجودة في الغرب أمهات لأبنائنا ( بالرضاعة ) ، ومن ثم سيعيش ويترعرع الطفل حتى يصبع شاباً ومن ثم رجلاً ، وسيتغذى روحياً وجسدياً بين أحضان مطاعم الفاست فود ووسائل الإتصالات الحديثة التي صنعها ( الخواجات ) ! ... أنا هنا لا أرفض الدخول والأنغماس في معترك الحياة الحديثة مجملاً أو مقاطعة الحليب المجفف ، أوالإمتناع عن مشاهدة أفلام الكارتون والعيش في صومعة بعيدة وخالية من حياة تمدن الرجل الغربي ، ( لاء البتـة ) .. بل أدعوا إلي مراقبة تلك الأغذية بنوعيها روحياً وجسدياً ، وأن تكون خاضعة لإشراف الأبوين ، وخاصة الأم ، ومع بداية حضانة الطفل الأولى ، ويجب أن لا ننسى إن ما يدخل أجسامناً وأرواحنا سيؤثر مستقبلاً في تكوين أخلاقنا وسلوكنا ونتيجة عيشنا ، فالكل هنا مسؤول ويتحمل نتائج التقصير في مسؤوليتاته ، وكما علمنا وأدبنا المعلم الكامل لمكارم الأخلاق محمد بن عبدالله عليه وآله وصحبه الكرام احسن الصلاة والتسليم ، ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ).