الزهراء(ع) ثورة على الاستبداد
نطقت عندما صمت الرجال، ونهضت عندما تخاذلوا، وواجهت عندما جبنوا.. لم يمنعها خدرها وحجابها، ولا جراحاتها الجسدية والنفسية بعد أن هوجم بيتها من أن تخرج وتفضح النظام وجرائمه أمام جماهير الأمة، فوضعت بذلك خطوطًا عريضة لما ينبغي أن تكحون عليه السياسة الإسلامية في الحكم والمعارضة لتضيف إلى ما وضحه وطبقه رسول الله وزوجها أمير المؤمنين في ذلك المجال.. هكذا قادت الزهراء بعد رحيل أبيها ثورة صارخة ضد الانقلاب الخطير الذي حرف مسيرة الأمة الإسلامية التي لا زالت تعاني الأمَرّين من آثاره السلبية للغاية.
لم تكن حركة الزهراء للمطالبة بحقوق فردية فقط، فالمتأمل في حركتها وكلماتها يجد أنها نادرًا ما كانت تتطرق لحقوقها الشخصية بينما تركز على التذكير بمراحل الإسلام وأركانه ومبادئه، وتتوقف كثيرًا لتحذّر الأمة من مغبَّة الإنزلاق في المنعطف التاريخي الأشد خطورة على مستقبلها بعد فقدها لقائدها وملهمها رسول الله الأعظم. وما أحوجنا في هذه الأيام للتأمل –ولو بشكل سريع ومختصر- في تلك المواقف والاستراتيجيات لتضيء لنا الطريق في زمن العتمة هذا.
عواقب الخضوع للاستبداد:
يرى البعض أن الانحناء لعاصفة الاستبداد قد يكون من الحكمة التي تجنب البلاد والعباد مغامرات غير محسوبة العواقب يكون شرّها مستطيرًا، ولكنهم يغفلون أن هذا الانحناء يجر –وبشكل حتمي- شرورًا أعظم وأدهى وأمَر عندما يفرض الاستبداد سيطرته الكاملة ويُحكِم قبضته الحديدية على الأمة وإرادتها ومواردها.
منذ ذلك اليوم وإلى هذه الأيام، وفي عالمنا العربي بالخصوص، نرى ونسمع كل حين بما حذرت منه الزهراء بنظرتها بعيدة المدى من العواقب الوخيمة للاستبداد مِن: إراقة الدماء، وتكدّر الحياة العامة، وانتشار الفتن المدبّرة بعناية، وكبْت الحريات الخاصة والعامة، وسرقة أموال الشعب، وتشتيت الصف، ومن ثم انفلات كافة الأوضاع في نهاية المطاف، حيث قالت: "أما لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا ملء القعب دمًا عبيطًا، وزعافًأ مبيدًا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف البطالون غبَّ ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفسًا، واطمئنوا للفتنة جأشًا، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدًا، وجمعكم حصيدًا، فيا حسرة لكم".
الاستبداد لا مبرر له ولا شرعية:
على مرِّ التاريخ، تسخِّر الديكتاتوريات جزء ضخمًا من جهودها لتبرير استبدادها وللترويج لأكاذيب تسبغ عليها شرعية ما، وعندما تنكشف هذه الأكاذيب والأوهام، تقترب هذه الديكتاتوريات من السقوط والاندحار. وهنا عملت الزهراء على ضرب أهم أركان الاستبداد عندما رفضت أن تقبل بالانقلاب على الشرعية تحت أي تبرير كان كحفظ أمن الدولة أوصيانة وحدتها، فالاستبداد هو أكبر مهدد لوحدة الأوطان وأمنها إذا أعطي الفرصة لينهشها بمخالبه المسمومة، كما وضحتذلك بقولها: "ابتدارًا زعمتم خوف الفتنة، (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)".
المواجهة الفورية، العلنية، والجماعية للاستبداد:
"لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكًا وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها..".
وقالت مستنضة جماهير الأنصار: "ما هذه الغميزة في حقي والسِنة عن ظلامتي؟.. ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول.. أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع.. وأنتم ذوو العدد والعدّة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنّة".
المطالبة بجميع الحقوق في مراكز القوة:
رغم أن نهضة الزهراء لم تكن للمطالبة بحق شخصي، لكنها علمتنا المطالبة بجميع الحقوق وعدم إغفال أصغر حق منها، وكذلك أن تكون هذه المطالبة في مراكز القوة وعند رأس السلطة، فهي خرجت إلى مسجد رسول الله الذي كان مركز جميع السلطات آنذاك و"دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة" وشرعت في خطبتها ومحاججتها له شخصيًا ولمن معه.
محاسبة السلطات:
بددت الزهراء فكرة حرية السلطات وإطلاق يدها في كل ما تفعل بمن تتسلط عليهم، فوقفت لتحاسب رأس السلطة على تجاوزاته وأسست بذلك لقانون الرقابة على السلطات وحق المواطن في مساءلتها ومقاضاتها، وهذا ما فعله أبوها حيث دعا المسلمين للاقتصاص منه قبل رحيله عنهم، وكذلك فعله زوجها أمير المؤمنين عندما جاءته الخلافة حيث جلس أمام القضاء مقابل يهودي وحُكِم عليه خلاف الحقيقة إلا أنه أذعن للحكم لأنه لم يمتلك الأدلة الكافية.
قالت: "يابن أبي قحافة! أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئًا فريًّا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: (وورث سليمان داوود)..". ثم واصلت استدلالها القرآني والفقهي وأقامت الحجة على القوم.
المطالبة بالسجناء والمعتقلين:
أولت الزهراء المطالبة بالإفراج عن أمير المؤمنين عندما اعتقل أهمية قصوى حيث كانت للتو قد أصيبت بإصابات جسدية خطيرة أدت فيما بعد لشهادتها إلا أنها نهضت بعزيمة سماوية تذهل الألباب لتذهب للقوم وتهددهم ليفكوا أسر أمير المؤمنين! وبهذا تلهمنا بأن قضية المعتقلين والسجناء تقع في سلَّم أولويات الحراك المطلبي إذ لا نجاح لهذا العمل ورموزه وأعضاؤه وكوادره في السجون يتعرضون للتعذيب وتنتظرهم المشانق في أي لحظة.
فضح البطولات المزيفة:
دائمًا ما يحاول الطغاة تلميع صورهم بنياشين البطولات الوهمية ليكسبوا بذلك إعجاب وتأييد الغافلين عن حقيقتهم، وهنا توضح لنا الزهراء ضرورة فضح هذه الأكاذيب –ولو مسبقًا- لينكشف بذلك وجه الطغيان الأشوه وتظهر حقيقة زعمائه الجبناء الذين لا تظهر بطولاتهم إلا على الشعوب العزلاء، فبعد أن تعرضت لبطولات أمير المؤمنين علي وتنمُّره في ذات الله، تطرقت لحقيقة هؤلاء بقولها: "وأنتم في رفاهيّة من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه.. وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه.. استنهضكم فوجدكم خفافًا، وأحمشكم فألفاكم غضابًا".
كشف المسرحيات المضللة:
باعتصام المحتجين في بيت فاطمة فضحت أكذوبة "الشورى" التي غابت عنها الغالبية العظمى من المسلمين داخل المدينة وخارجها.
وكذلك عندما أدركت السلطة فداحة ما أقدمت عليه في انتهاكاتها المتواصلة ضد أهل البيت، وما لذلك من أثر في شحن نفوس المسلمين أكثر وأكثر ضدها وهي لا تزال بعد في أيامها الأولى، حاولت الالتفاف على هذه المعضلة بمسرحية توهم الناس أن العلاقة بين السلطة وأهل البيت في تحسن عبر اتباع "سياسة تطييب الخواطر" الصورية، لكن الزهراء بفطنتها المعتادة لم تتح أي مجال لهكذا مسرحيات حيث رفضت مجرد اللقاء في بداية الأمر، وحتى لمَّا تمَّ اللقاء كانت في منتهى الصرامة حيث لم تقابل أبي بكر وعمر بوجهها بل حولته إلى الحائط، كما لم ترد سلامهما -مع ما في ذلك من دلالات واضحة في الدين الإسلامي-، ثم صرَّحت أنهما أصبحا من "المغضوب عليهم" حيث ذكّرتهما بحديث رسول الله: "نشدتكما بالله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، ومن أحب فاطمة ابنتي أحبني، ومن أرضى فاطمة فقط أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟
قالا: نعم سمعناه من رسول الله.
قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونَّكما إليه.
فقال ابن أبي قحافة: أنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة...
فقالت: والله لأدعوَّن الله عليك في كل صلاة أصلِّيها"(1). ومن يطَّلع على تفاصيل هذه الزيارة يعرف سرَّ تصرفها بهذه الكيفية حيث لم يقصد منها إلا الدعاية المضللة إذ لم تعتذر السلطة عن أي تجاوز، ولم تعد أي حق شخصي أو عام، ولم تقدم أي تعويض، كما لم تعد بأنها ستفعل أي من ذلك مستقبلاً، بل جددت موقفها لكن بأسلوب ألين لكسب التأييد.
وأيضًا، روت عائشة بنت أبي بكر: "..فوجدت (أي غضبت) فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت.. فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذِن بها أبا بكر وصلى عليها.."(2) وبهذا أعلنت الزهراء للجميع بأن هناك عداوة بينها وبين السلطة حتى الممات وأنه لا صحة إطلاقًا لما يشاع من أوهام وخرافات.
تقديم المنهج البديل:
لم تكتفِ الزهراء بتعرية رموز الظلم والفساد والجهل والاستبداد، وفضح ميول التخاذل والخنوع، بل قدَّمت أيضًا منهج الحكم البديل المتَّسم باللين والعدالة والعلم والصدق حيث وصفت منهج حكم أمير المؤمنين علي: "..ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميرًا صافيًا رويًّا تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه، ولأصدرهم بطانًا، ونصح لهم سرًّا وإعلانًا، ولم يكن يتحلَّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولَبَانَ لهم الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب.. استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون؟!".
إعداد أجيال جديدة من الأحرار والمجاهدين:
لم تَحُل الأثمان الباهظة التي تكبدتها الزهراء في نهضتها ولا إرهاب السلطات لكل من ينبس ببنت شفة ضدها دون تمرير الزهراء لرسالتها المقاومة للأجيال اللاحقة، ولم تنطفئ جذوة الثورة والمقاومة المستميتة لحكم الباطل برحيلها شهيدة مضطهدة مقهورة بل تفجرت بعدها ثورات وثورات ظاهرة وخفية على أيدي من ربتهم الزهراء على هذا النهج بنينًا وبناتًا وبذلك ضمنت استمرارية حركتها الجهادية، فهذا الحسن يظهر الوجه الخفي للحكم الأموي الغادر بسلميته، وذاك الحسين ينسف مزاعم إسلامية الدولة الأموية بما ارتُكِب بحقه وحق أنصاره ونسائه وأطفاله من انتهاكات بشعة مؤذية للحس الإنساني، وتلك زينب تبدد إشاعات السلطة الأموية وتلقم أعلى قياداتها حجرًا بكلماتها النارية أمام الجماهير في مختلف البلدان.
كانت هذه تأملات بسيطة في بعض الإشارات التي حملتها سيرة الزهراء بعد رحيل أبيها.. تلك الأيام القصيرة التي ملئت بالآلام والمآسي والجراحات والتي نقشت وتنقش آثارها المخزية على جبين ماضينا وحاضرنا، فلتكن لنا في الزهراء أسوة حسنة.