براءة تستغيث
هيأت أماني نفسها لاستقبال مولودها , وأخذ قلبها يحدثها عن ملامح المولد المنتظر , وكل حاسة في جسمها أخذت نصيبها من الشوق والفرح .
يديها تداعب الوجنتان النديتان , ونظرها يكتحل بقسمات الوجه البريء , وأذنها تطرب مع أنغام بكاء الرضيع , ولسانها يتفنن في أرسال أعذب الألحان .
سارت أماني إلى المستشفى , وفرحتها بالمولود , أكبر من ألآمها .
بعد ساعات قليلة ستكتمل فرحت أماني , وتضم رضيعها إلى صدرها .
أنها فرصة أماني الأخيرة في الحمل والإنجاب .
فأماني عملها كمدرسة في بلد يبعد عن مقر إقامتها آلاف الكيلو مترات , قد أفقدها حملها أكثر من أربع مرات , وأخلدت لراحة في حملها السادس , فهو أملها الأخير في الأمومة .
أخذت أماني تمني نفسها , وتحلم بسنوات رضيعها , وفرحتها باللقاء , رسمت في ذاكرتها , رحلت مولدها في هذه الدنيا , وقلبت في ذاكرتها مراحل الطفولة المبكرة , وسنوات الدراسة , ويوم التخرج من الجامعة , وفرحتها الكبرى بتكوين الأسرة .
ويصرخ الطبيب مبروك ... مبروك !!!
وتصرخ أماني بدموع ممزوجة بالفرح والألم !!!
هل شرف حفيدي إلى دار الدنيا ؟؟؟
ويعلو بكاء المولود , وانسحبت أماني بهدوء إلى أرض الواقع .
وتلامس يديها جسد مولدها , وتنظر إلى قسمات وجهه , ولسانها يطلق أعذب الألحان , ويتغنى باسمه خالد .
ويسأل الطبيب عن السر في اختيار هذا الاسم ؟
وتجيب أماني وكلها أمل وثقة بالله عز وجل !!!
لِخلد ويعمر هذه الدنيا !
خالد أخلد للنوم وبهدوء نظر إلى المستقبل .
بعقله الصغير , الفقير إلى تجارب الحياة وخبرتها .
أمي كم أتمنى أن يتحقق حلمكِ , ويسعدني بناء كل لبنة في هذا المستقبل الباهر .
حجب خالد دموعه وبكائه عن أمه .
كما حجب عنها تفكيره في مستقبله , ونظرته إلى الحياة الجديدة .
وقلب خالد حياة المستقبل .
أمي الغالية .
أنتِ امرأة عاملة تشقى من أجل حياة كريمة لها ولأبنائها .
مثل كل امرأة تسعى لبناء هذا الوطن وخدمته .
أبحر خالد في تفكير والدته .
قرأ كل خلية في فكر أمه وماتحمله هذه الخلية لمستقبل ابنها .
خلية تجهد نفسها لتوفير حياة الرفاهية والسعادة لخالد .
وخلية تتفنن في تعلم خالد لينال أعلى الشهادات من كبرى الجامعات .
وأخرى تبحث عن خادمة لتساعد أماني على تربية خالد والعناية به أثناء عمل أماني .
وتوقف خالد عند هذه الخلية , فقد صدق حدسه .
تكسرت دموع خالد بين ضلوعه , وخفق قلبه الرقيق .
كتم خالد صراخه , وقال : خادمة لا . لا . لا . يا أمي .
أمي لا بيديكِ وأموالكِ تقتلِ فرحت العمر , وتحطمِ عودكِ الندي .
احتضنت أماني مولدها لأول مرة إلى صدرها .
سقطت قطرة من دموع أماني على وجه مولدها .
وببراءة الطفولة وقع نظر خالد على قسمات وجه والدته .
أخذت أم خالد تتحدث إلى مولدها , بصوتها الهادئ والناعم .
غدًا يا ضياء عيني سوف تصل الخادمة لتساعدني في الاعتناء بك .
أعلم أنك لا تفهم لغتي وحديثي فأنت لا تزال رضيع في المهاد .
أعلم أمي أني لا زلت رضيع لا أتقن فن الحديث .
لكن أمي كم أتمنى أن ترفعِ الحاجز عن نظركِ وتنظري إلى الماضي والمستقبل .
أنظري إلى الأزهار بعين البراءة .
فهناك زهرة حطمتها أقدام الخادمات , وزهرة ذبل عودها وفقدت بريقها , وزهرة تعد من الأموات ومسجلة بين الأحياء , وزهرة يعلو صراخها كل حين ارحموا براءتنا , وزهرة نُثرت أوراقها في الهواء . وزهرة . وزهرة . وزهرة !!!
تساقطت دموع الفرح من أماني وهيا تلامس رضيعها .
علا بكاء خالد في أركان الغرفة .
وتمنى من كل قلبه الصغير المقبل على الحياة , ألا تتبدل دموع الفرح بدموع الأحزان .