دُعاة التأزيم
أحاول جهدي عبر هذا المقال أن لا يأخذني الخوف ، والجبن ، والحذر وأنياب الكواسر ، وجبر الخواطر ، إلى أبعاد أفقد معها القدرة على ما أنوي توصيفه أو تبيانه على أقل تقدير ، فالمسألة جد مُعقدة ، وأشعر وأنا أتناول هذا الموضوع وكأنني أسير في حقول من الألغام . ليس لسوء ظن في الآخرين – لا سمح الله - بل لإدراكي للطبيعة البشرية المركبة ، وإقراري بحق كل إنسان في سن طريقة التفكير التي يرتضيها ، وإختيار الجماعة النفسية الإجتماعية التي ينتمي إليها ، بغض النظر عن إتفاقي أم إختلافي معه بشأنها ، لأنه المسؤول الأول والآخير عن نتائجها ، وما يترتب عليها من ثواب ، أو عقاب . إنطلاقاً من المسؤولية الفردية الجنائية في الإسلام لقوله تعالى ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (164) سورة الأنعام .
أيها الأحبة : عزائي الوحيد – والله أعلم – وألتمس منكم العذر ، إنني أشق عباب بحر المحاولات ، محاولة تلو الأخرى لأسهم معكم بل وإياكم أيها الأفاضل في تنقية النفس البشرية من ما يعيقها من أن تتفاعل إيجابياً مع محيطها الإنساني بكل تعدد أطيافه ، وتضادد رؤاه . متخذاً من الموضوعية مركباً لعله يكون آمناً وقبولاً للوصول للهدف المنشود .
أعلم جيداً إن هناك من لا يوافقني الإتيان بكل هذه المقدمة التحضيرية لنفسية القارئ الكريم متهماً إياي بفرط في الحساسية الإجتماعية ، على إعتبار إنني لم أتناول أحداً بسوء حتى اللحظة ، ومما لا شك فيه إنني أحترم هذا الدفع نحو المكاشفة اللطيفة – وهذا صحيح - ولكن إذا كنت أتناول مسألة ( التأزيم ) وآثاره على الفرد والمجتمع والوطن ككل ، فمن الأحرى بي أن أتوخى الحذر ما استطعت،وأن لا أكون في طليعة المؤزمين . ولا من أئمتهم سامحهم الله وهدانا وإياهم إلى طريق الخير والصواب .
فالتأزيم وتعقيد الأمور بل وتحميلها ما لم تحتمل بات طبيعة مُستحسنة لدى بعض البشر سواء في داخل المحيط الأسري ، أو في بيئة العمل ، أو في ميدان الخدمة الإجتماعية ، أو في التكتلات الإنسانية المختلفة . حيث لا تنفك أن تجد داخل هذه الحاضنات الإجتماعية التي يُفترض أن يتنفس الإنسان فيها هواءً نقياً خالياً من جميع أنواع الإنفلونزا إبتداءً من الدجاج والطيور وإنتهاءً بالخنازير من يتبنى في الغالب ( سياسة التصعيد والتأزيم ) ربما يكون ذلك عن حُسن نية وهنا نجد له العذر والقبول على مضض ، ولربما كان ذلك عن سبق إصرار وترصد ورغبة جامحة في تضخيم الصغائر وأخذها لمسار مُعقَّد تستحيل معه لملمة الشمل وعودة الأمور إلى نصابها ، والمياه إلى مجاريها . وحشد المؤيدين من أجل ترسيخ تلك الحالة التأزيمية ، والتي يتم طليها بطلاء الحفاظ على الكرامة ، والتماسك ، والمصلحة ، والهيبة ، والدعوة إلى الحق ، وغيرها من المبررات التي يسوقها ( دُعاة التأزيم والتصعيد ) لإقناع أصحاب النوايا الحسنة بتغيير مواقفهم وضرورة الإنضمام إلى التيار التأزيمي الذي يرى أكثر من غيره أين تكمن المصلحة ، وفرض وصايته على الآخرين !!
ربما يكون التصعيد والتنافس أحد إستراتيجيات إدارة الصراع سواء بين أفراد الأسرة ، أو في بيئة العمل ، أو في الحقل الإجتماعي ، أو التدريب العسكري ، وغيرها من بيوت التنشئة الإجتماعية ، ولكن لا يكون التصعيد والحال كهذا تصعيداً تأزيمياً لأنه ينطلق من قاعدة علمية بحته لها مقوماتها وأهدافها العلمية وإطارها الموضوعي ، حيث يأخذ التصعيد هنا منحىَ إيجابياً يهدف إلى تعزيز القدرات وتفجير الطاقات الكامنة ، وترسيخ مفهوم العصف الذهني ، والتدريب بالمباراة الإدارية ، وهذا تعقبه في الغالب حالة من الإدراك والرغبة في التفاهم والإنسجام والعيش المشترك ، وعودة الأمور لمسارها الطبيعي وتظافر جهود الكل لتحقيق الهدف الأسمى الذي حدده من قام برسم تلك الإستراتيجية المنتجة والواعية .
الخوف كل الخوف أيها الأحبة من ذلك ( التأزيم التدميري ) مهما كان حجمه ، ومن أين كان مصدره ، والذي يهدف إلى خلخلة البناء الإجتماعي ، وضعضعة الكيان الكلي ، ودس فيروس التنافر والتآمر بهدف تحقيق مصلحة سخيفة قصيرة المدى ومحدودة التأثير ، ولكن ثمنها باهظ التكاليف بل ويسبب إنتكاسة ثقيلة في معيار العلاقات الإجتماعية ، والرؤية التقريبية بحيث يصعب معها النهوض والعودة إلى آفاق التأثير والفاعلية.
أتمنى أن يراجع ( دُعاة التأزيم ) من أي جهة كانوا ، ولأي جماعة انتسبوا محتويات أجندتهم ويعيدوا قراءة أفكارهم ، ويُحكِّموا ضمائرهم ويعلموا جيداً إن الربح القصير المدى المبني على حساب المصلحة العامة ، وتفتيت النسيج الإجتماعي ، إنما هو أخف عند الله من جناح بعوضة في ميزان الربح الإستراتيجي الذي يصب في مصلحة الفرد والمجتمع ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلاَّ من أتى الله بقلب سليم ) (88) سورة الشعراء .
ما أجمل أن يكون الإنسان أليفاً ودوداً ، وموفقاً بين الجماعات ، ومسدداً ومقارباً بين الناس ، ومؤازراً لجهود الخيرين التي تصب في ذات الإتجاه ( مع إحتفاظه بقناعاته الشخصية ، وهذا من حقه ) فيد الله مع الجماعة ، لا أن يتزعم كتائب التأزيم والتصعيد ، وينفخ في كير التشرذم والتباغض والتنافر ويقع في فخ التأويل والتقييم الذي يؤدي بالضرورة إلى استخلاص النتائج المغلوطة بحيث يكرس حالة القطيعة التي لا تُحمد عقباها وتُذهِب ريح الجماعة إلى غير رجعة لا سيما وأن الأعداء كُثر ويتربصون بنا الدوائر . وهناك من يُهلِّل ويكبِّر لحالات الإجهاض والطلاق عن جهل في مرات عدة ، وعن عمد في مرات أُخرى غير آبهٍ بوحدة المسير وجدية المسار ، والمصير المشترك بيننا جميعاً دون أن يكون هناك خياراً لأحد ، أفيقوا بارك الله فيكم لأنكم جزء من كل ولستم بمفردكم وإن بدا لكم غير ذلك فهذا من عمل الشيطان بل من أنفسكم أنتم .
حفظنا الله وإياكم من كل متأزم لا يؤمن بيوم الحساب . ولكم تحياتي ،،،