عقولنا والفحص الدوري
عندما جاء الجنود الإيطاليون لغزو ليبيا كانوا ينشدون قائلين :
(يا أماه . أتمي صلاتك ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني، وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً.
لأبذل دمي لسحق الأمة الملعونة.
ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان.
سأقاتل بكل قوتي لأمحو القرآن…)بهذه الصورة الذهنية المشوهة عن الآخر دخل الغازي الإيطالي إلى ليبيا ليقوم بعمل مقدس يمارسه عن قناعة واعتزاز. لم يحاول الجنود الإيطاليون في ذلك الوقت فحص قناعاتهم واختبار أحكامهم المسبقة والناجزة تجاه الآخر، وهذا أمر طبيعي؛ فغالبية الناس لا تفحص برامجها التي تسيرها لتكتشف مدى صلاحيتها، بل الأغلب يظن أنه هو من يبرمج ذاته، ناسيا أن هناك العديد من المبرمجين المتلاعبين بالعقول الذين يعملون ليل نهار على صنع قناعاته واتجاهاته غير آبهين بحريته الشخصية. الأسوأ من ذلك أنه يتم تسويقها عليه وكأنه هو صانعها. يتم ذلك عن طريق البيت والمدرسة والمجتمع والإعلام وغيرها من وسائل التأثير.
نحن نعلم أنه بدون تلك البرامج السيئة ما كانت لتقوم الحروب الصليبية، أو الحروب الدينية في أوروبا التي استمرت أكثر من مائتي عام بين أتباع الديانة المسيحية من كاثوليك وبروتستانت والتي حصدت ملايين الأرواح. في فرنسا مثلا وفي مجزرة واحدة ( مجزرة سانت بارتيليمي ) في عام 1572 م، سقط أكثر من ثلاثة آلاف قتيل من البروتستانت في ثلاثة أيام في باريس وحدها على يد الميليشيات الكاثوليكية المتعصبة. تم قتل الرجال والنساء والأطفال في حملة تطهير قذرة بزعم أن ذلك ضروري من أجل توحيد المملكة الفرنسية حول الإيمان الكاثوليكي وشخصية الملك المقدس ذي الحق الإلهي. وقع ذلك بمباركة وتأييد أعلى سلطة دينية البابا غريغوريوس الثالث عشر الذي اعتبر ما حدث انتصارا للإيمان الحق على الهرطقة وأنه انتقام إلهي.
نحن نعلم أنه بدون البرامج السيئة التي تقوم بتفخيخ العقول، ما كان يمكن أن يحدث ما يحدث في العالم الإسلامي من صراع طائفي مقيت تستخدم فيه أدوات أخطر من كل أنواع الأسلحة، حيث التحريض على العنف والإقصاء ونبذ الآخر باسم الدين؛ وحيث يتم تبرير القمع وانتهاك حقوق الإنسان تحت عناوين دينية مختلفة.
لقد ناقش علم الكلام الإسلامي الخلاف الفكري بين الأشاعرة والمعتزلة حول حرية الإنسان، وهل هو مسير أم مخير؛ ولكنه اليوم مدعو لمناقشة المعوقات التي تحول بين المرء واختياره، أي بينه وبين حريته. فقد يتراءى للإنسان أنه مخير، وأنه يتصرف وفق اختياراته، ولكنه حين يدقق النظر سيكتشف أنه مسير وفق برامج صممها الآخرون. لذا فإن المطلوب من مثقفينا ومفكرينا أن يوغلوا أكثر في هذا الموضوع الشائك الذي أسماه المفكر السعودي ابراهيم البليهي ( علم الجهل ) والذي يعمل على تفكيك بنية الجهل والتخلف في عالمنا الإسلامي. يقول الأستاذ البليهي في هذا الصدد:
إن التقييمات الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات السائدة تتحكّم بتفكير الإنسان وسلوكه وتفصل بينه وبين غيره من دون أن يحس لأن المبرمجين بها الواقعين في أسرها لا يعرفون حقيقتها ولا يخطر على بالهم أن يضعوها موضع المساءلة أو الشك، بل يجهلونها جهلاً تاماً وينكرونها إنكاراً قاطعاً إنها تحتمي بهذا الجهل والتجاهل والإنكار من أي توقف عندها أو تحديق بها أو فحص لها أو تحقق من أساسها ومصادر تكوينها وبذلك تبقى البداهات الخاطئة في ظلام اللاوعي تُسيِّر الإنسان بصورة تلقائية فيرفض ما لم يعتد عليه دون أن يحاول فحصه ، ويستخفّ بما لم يألفه دون تمعن ويتجاهل من يستحق الاهتمام من غير إحساس بالخطأ أو الإجحاف.
أخيرا أعتقد أن العقول أولى بالفحص الدوري من السيارات.