وتبتسم الجراحات
ودعت مها والدتها وقبلت أناملها .
وتمتمت أمُّ مها بكلمات .
فهمت مها معانيها .
قالت مها : لوالدتها أمي !!!
لا أستطيع ترك السفر والترحال , ولن تكون هذه الرحلة الأخيرة .
استقرت مها على مقعدها , وهي تنظر إلى العالم من نافذتها الصغيرة , وعقلها الذي بدأ يدرك كل ما يحيط به , سحبها نحو كلمات والدتها .
وشدها نظرها إلى العالم الذي يتحرك أمام عينيها , وجسدها أخلد للاسترخاء والراحة , وتركت العنان لتفكيرها , ونظرها يتصارعان كيفما يحلو لهم .
كانت رحلة طويلة وشاقة على مها فهي وحيدة وغريبة على هذا العالم .
صوت نادها ابنتي !!! ابنتي !!!
قطع عليها حبل أفكارها وحرف نظرها .
رفعت رأسها وقالت : نعم ... نعم .
خاطبها ثانيةً وقال : ابنتي تفضلي .
تناولت مها كأس الماء وشكرته .
أحدقت النظر إلى صاحب الكأس , ومنظرهِ ومنطق حديثهِ أثار فضولها , وازدادت حيرتها عندما طلب منها أن يجلس بجانبها .
سمحت لهُ بالجلوس وحيرتها كادت تفقدها رشدها .
أوقف صاحب الكأس تفكيرها , عندما عرفها على نفسهِ .
استأنست مها من عباراتهِ وثقافته الواسعة , ونظرته إلى الحياة رغم سلب الحياة كل المعاني الجميلة من قاموس محطاته .
رجل ناهز التسعين بالمنظر وثقافته وكلماته تفصح عن شهادات عُليا من أرقى الجامعات .
نعم ابنتي !!! شهاداتي من جامعة الحياة .
قالت مها : والحياء سبق عِباراتها والدي .
كيف اكتسبت هذه الخبرة ؟
قال ابنتي : اكسري كل القيود , ودعي الأفكار تتعانق في الهواء , والكلمات تسبح في الفضاء , لتحلق نحو المستقبل .
أصغت مها بكل حواسها للكلمات النابعة من والدها .
فقد أنعمت عليه بوسام الأبوة بجدارة .
لأن نعومة أظافرها لمست حنان الأب المفتقد منذ سنوات , وضلت كلماته تقرع أجراس تفكيرها وحيوية حديثه تطرب أذانها , وحكمه المتناثرة من ثغره تنبأ عن تجربته وخبرته المثقلة بالألآم والممزوجة بالحرمان .
عَلِقت في ذاكرت مها صدى كلماته .
لا تقطعي الألم والمعاناة بالهروب والترحال ولملمي جراحاتكِ , وقبريها بكتم آهاتكِ , والترفع عنها بإبتسامتكِ .
سبح عقلها في الفضاء يجمع نجوم الأب لِنضمها , ويقدمها كتذكار إلى مها من والدها .
فكل نجمة تحمل معاناة مؤلمة للأب .
أخذ كف مها يقلب النجوم وأذانها تسمع عن رحلة شقاء الأب .
منذ أن أبصر نور الحياة حُرم من عطاء الوالدين لينقش القدر على جبينه اليتم , ويقضي طفولته في العمل وطلب العيش الهانئ .
ويكمل نصف دينه , لتجلب معها الألم والشقاء , وتنتهي بأربعة أطفال يتنقلون بين الوالدين وتداوي جراحته شريكته , ليتقطع فؤاده كلما رأى أبنائيه وعجزه عن مسح آهاتهم وتصم أذنه عند سماع أنينهم .
تنمو آلام أبنائه كما نمى جسمهم , لكن النصيب الأكبر في النمو.
كان للألآم والأحزان التي أخذت تتسارع في النمو داخل فؤاد الوالد .
كلما نظر إلى زهرة شباب أبنائه وعجزهم عن شق طريقهم في الحياة , كما عجزوا عن مواصلة التحصيل الدراسي .
وتصوب ابنته الكبرى السهم المسموم الملتهبة بنيران تفكك أسرتها وضياع أولادها , لتحرق الفؤاد المتحلل بالألآم والأحزان .
وتصرخ مها وهي تنظر إلى كفيها , لستم نجوم مضيئة بل أحجار صماء , أسود من الفحم .
يهرول الأب مسرعًا نحو مها .
وهرولته أسرع من عباراته .
ماذا تقولين ؟
وأين هي النجوم ؟
وأين هو الفحم ؟
ماذا حل بك يا ابنتي ؟
أزاحت بيديها ستار الدموع ورفعت رأسها .
وقالت : والدي جسمك قوي البنية رغم التجاعيد المتهالكة على !!!!!
وتسير بخطى ثابتة رغم انحلال !!!!!
وقلبك الأبيض ينبض بالحياة رغم سواد الأحزان التي تهلك ساعده !!!
وتنثر الفل والياسمين رغم النيران الملتهبة في كل خلية به !!!
رفع حاجبه عن عينيه وقال : ابنتي اعذريني إذا كانت نجومي غير مضيئة , وعن كل حرف جرح روحك الشفافة .
أما سر حيويتي ونشاطي !!!
فإن الحزن والألم والحرمان لم ينخر روحي , ولم يتمكن من تفكيري سهام الغدر والألم والحزن تلقيتها بإبتسامتي المشرقة , وجراحاتي الملتهبة طببتها بحذفها من محطات حياتي .
زرعت الورود في كل محطاتي حتى بين الصخور والأشواك .
ويعلن القبطان عن وصول الرحلة إلى محطتها النهائية .
ودعت مها والدها بإبتسامة مشرقة متوجة بالنور , وببعض الكلمات العفوية البسيطة .
قالت : ما أروع الإنسان عندما يبتسم وقلبه مثقل بالهموم , والأروع عندما أبدعت يا والدي وزرعت الورود في دروب الأشواك .