مأساة غياب الهوية الوطنية الجامعة
في يوم 9/7/2011 م، تم الإعلان عن ولادة جمهورية جنوب السودان وعاصمتها ( جوبا ). المراقبون لم تفاجئهم نتيجة الاستفتاء التي عبرت عن رغبة كاسحة ( 99% ) في انفصال الجنوبيين وتكوين دولتهم، وذلك لأن جميع المعطيات كانت تشير للنتيجة ذاتها.
فبرغم السنوات الست التي خصصت في اتفاقية نيفاشا 2005 م لتعزيز خيار الوحدة الجاذبة، إلا أن حكومة الخرطوم لم تستفد منها بالشكل المطلوب وضيعت الفرصة، ثم لما حانت لحظة الحقيقة أرادت أن تسجل أهدافا في الوقت الضائع، فلم تفلح سوى في تسجيل أهداف في مرماها.
يمكن للحكومة السودانية الحالية أن تلقي باللائمة على مصر لعدم قيامها بدورها تجاه الأمن القومي السوداني، حيث تراجع حضور حديقة مصر الخلفية في المنظومة الأمنية والاستراتيجية المصرية، ويمكن أن تلوم أمريكا وإسرائيل على دورهما المشبوه في تشجيع الانفصال والتقسيم. وكل ذلك صحيح، غير أن من يجب أن يلام حقا هو من وفر الأرضية المناسبة للعوامل الخارجية كي تحدث تأثيراتها. من يجب أن يلام أولا هو الحكومة السودانية لفشلها في صنع الهوية السودانية الجامعة، ما أتاح المجال لبروز الهويات الفرعية من دينية وقبلية ومناطقية وعرقية في بلد ذي هوية متعددة تجمع أعراقا متقاطعة وقبائل شتى ولغات مختلفة منها الأفريقي ومنها العربي ومنها المسلم والمسيحي وغيرهما، وكان ينبغي العمل على إيجاد هوية وطنية تستوعب جميع المكونات دون إلغاء أو تهميش لأي منها، إلا أن ذلك لم يحدث، فوجد المتربصون الفرصة سانحة لتنفيذ مخططاتهم.
لقد عبر أحد قياديي جبهة الإنقاذ الديمقراطية الجنوبية المهندس فاروق قاتكوث عن أسباب انتكاسة الوحدة قائلا: إن الوحدة لم تعد مطروحة في ظل معاملة الشماليين الإقصاء والتمييز للجنوبيين؛ كما عبر عن الأمر ذاته رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي ملخصا العوامل التي أدت إلى انفصال الجنوب في أزمة الحكم في السودان منذ الاستقلال، والثقافة الأحادية المفروضة، وسوء استغلال موارد البلاد، وانعدام التنمية العادلة، وحروب المركز ضد الهوامش، وانعدام المواطنة المتساوية لجميع المواطنين، ونقض العهود والمواثيق.
لم يكن ما حدث أمرا قدريا لم يمكن تفاديه، بل هو عبارة عن مجموعة من السياسات والممارسات الخاطئة أدت في النهاية إلى خسارة السودان أكثر من ربع مساحته. كان يمكن استيعاب الجنوبيين من خلال دولة المواطنة المتساوية، إلا أن النخبة الحاكمة في الشمال لم تكن مستعدة لدفع الثمن حيث لا تريد أن تتنازل عما تعتبره مكتسبات تاريخية لها فكانت النتيجة كما نراها.
نحن إذن أمام مشهد ينبغي قراءته بصورة جدية، إذ لا يمكن لأي بلد ذي ظروف مشابهة أن يدعي أنه مستثنى من هبوب ريح التقسيم ما لم يقم باتخاذ إجراءات عملية على أرض الواقع تغير اتجاه الريح، وأولها تكريس مبدأ المواطنة والحقوق المتساوية والفرص المتكافئة.
إن دراسة تجارب الوحدة القسرية تنبئنا عن الفشل الذريع والنهاية المأساوية لها، كما حدث في انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وانفصال أرتيريا عن أثيوبيا وغيرها. في المقابل استطاعت ألمانيا أن توحد شطريها من خلال الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
الوحدة الجاذبة ليست مجرد تمنيات أو أحلام يقظة، بل هي حزمة من المشاريع ( أصدق إنباء من الكتب ) تجعل الناس يشعرون أنهم بالفعل سواسية كأسنان المشط، وأن لا فرق بين مواطن وآخر سوى بالكفاءة لا بالانتماء المناطقي أو القبلي أو المذهبي أو غيرها.